آرثر ميللر … المشهد الأخير
آرثر ميللر – الكاتب الأمريكي الذي ينحدر من أصل بولندي وكان أبواه قد هاجرا إلى الولايات المتحدة وهو طفل صغير ، وفي تلك المرحلة التي يصفها الكاتب في مذكراته بالصعبة جداً أضطر للعمل وهو في سن مبكرة لكي يوفر الطعام لعائلته وشهدت سنوات عمره اللاحقة والمتزامنة مع الشهرة العريضة التي حصل عليها في عالم الكتابة والتأليف والتي سادها مواقف فيها الكثير من المجابهة والتعارض مع السلطة في الولايات المتحدة. في حقب زمنية مختلفة ، اتخذ تلك المواقف على خلفية مجابهة “المكارثية ” في الخمسينات من القرن الماضي ومجابهة تلك القوانين التي وجدت لمحاربة كل التيارات المعارضة للسياسة الأميركية تحت بند محاربة المناوئين للسياسة في الولايات المتحدة .
كذلك موقفه الواضح والجريء ضد الحرب التي نشبت في فيتنام ، ورغم تقدمه بالسن وصراعه الطويل مع المرض فقد أبى آرثر ميللر الذي توفى عن عمر يناهز 89 عاماً إلا أن يواصل دوره الإنساني في مقارعة الظلم والتصدي بشجاعة نادرة لسياسة بلاده ضد شعوب العالم.
من المواقف التي سجلت له قبل وفاته مطالبته للرئيس الأمريكي – جورج دبليو بوش – بالاعتذار من الشعب الأمريكي عما ساقه من أكاذيب حول أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق والتي اتخذها ذريعة لشن الحرب ضد العراق ، وقال ” أن هذه الحرب ألحقت دماراً وسببت مآسي ما يزال العراقيون يعانون منها ” ويعتبر ذلك أشد هجوم يشنه آرثر ميللر حيث أتهم في تصريحات لاحقة الرئيس الأمريكي بقيادة إدارة تمضي وقتها في خداع الرأي العام.
وقال في تصريح آخر لافت للنظر نشرته الصحافة الأمريكية آنذاك “أنه يدعو الله إلا يغزو بوش العراق لأن ذلك سيحول الأنظار عن المشاكل الرهيبة التي بدأ يعاني منها الشعب الأمريكي ، وأضاف ميللر ، أنه لو حدث واقتحم الرئيس بوش العراق فإن أحداً لن يجرؤ على انتقاد فساد إدارته لأن من يفعل ذلك سيتهم فوراً بأنه يلعب لعبة الأعداء ” وفي حديث آخر أدلى به إلى مجلة ” أكسبرس الفرنسية ” قال فيه : “أن الحرب ضد العراق ستحول أنظار الأمريكيين عن المشاكل التي بدءوا يعانون منها مثل ارتفاع معدلات البطالة بشكل مقلق وتزايد الفضائح المالية لمسؤولين كبار” .
اعتبر ميللر في ذلك التصريح أن الإدارة الحالية للولايات المتحدة الأمريكية نجحت على حد تعبيره في أنه لم يعد للولايات المتحدة أي حليف في العالم ، كما أشار بوضوح إلى أن بلاده أصبحت معزولة في مواقفها بشكل تام وأنها ستدفع ضريبة ذلك في يوم ما ، كما وجه اتهاماً مباشراً إلى إدارة الرئيس جورج دبليو بوش واصفاً إياه بتدمير نظام الأمن الاجتماعي والاحتياطي من المياه وتدمير البيئة وأن هذه الإدارة تقود البلاد من مصيبة إلى أخرى ، وأضاف في تلك المقابلة “أن كل ما نعرفه اليوم هو أن كل فاسد تتزايد فرص دخوله في الإدارة البوشية – نسبة إلى بوش – تلك الإدارة التي ينبغي أن يشعر جميع الأمريكيين بالعار منها ” وفي سؤال وجهته إحدى الصحف أليه عما إذا كان ما يجري الآن في أمريكا يتشابه مع ما كان يحدث خلال الفترة المكارثية ..؟ أجاب ميللر “انظروا إلى القانون الذي تقترحه الإدارة الأمريكية لتحويل الأمريكيين إلى مباحث ، فإدارة بوش تقوم بإلقاء القبض على الناس في الشوارع بدون أسباب إلا لأن رؤوسهم تدل على انتمائهم لجنس معين ، أنني أشعر بالذهول مما يحدث ” واعتبر ميللر في تلك المقابلة ” أن الكارثة الحقيقية هي أن الديمقراطية أصبحت مهددة في الولايات المتحدة بفضل سياسات إدارة بوش ” إلا أنه أعرب عن ثقته بأن الآلية الديمقراطية وهي التصويت الحرّ لا تزال موجودة لإيقاف إدارة بوش عند حدها ومنع القوانين الجائرة التي تقترحها ..
يعد الكاتب ارثر ميللر من أبرز الكتاب المسرحيين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وقد وصف طيلة حياته بالكاتب الليبرالي ،حيث أغنى المسرح طوال نصف قرن من خلال أعماله المسرحية والتي كان من أشهرها ” موت بائع جوال – وكلهم أبنائي – ” .
توفى ميللر بعد عمر ناهز 89 عاماً قضى شطراً منها في صراع مرير مع أمراض مستعصية ” السرطان إلى جانب الالتهاب الرئوي وأمراض القلب ” وكان قد ولد في العام 1915 في نيويورك ، وجد أوضاع أسرته المالية تنهار في خضم الأزمة المالية الهائلة التي وقعت في الولايات المتحدة خلال العام 1929 الأمر الذي دفعه للعمل في وظائف متدنية الأجور والمكانة ليتمكن من تسديد نفقات الدراسة في الجامعة .
آرثر ميللر والمسرح
حيث كان يواصل دراسة علوم الصحافة ، وخلال مرحلة النصف قرن التي أمضاها في الكتابة للمسرح كتب مسرحيات كانت محطات كبيرة للاختلاف والنقد وإثارة الدهشة وعلامات الاستفهام ، طرح فيها بجرأة كبيرة قضايا المجتمع الأمريكي وقيمه الأخلاقية والعائلية وذلك التضاد المخفي والمكشوف أحيانا في الأفكار والممارسة ، عالج في مجمل نتاجه المسرحي المتميز قضايا اجتماعية مختلفة غالبا ما حفلت بجدل مثير خاصة في المواضيع الأكثر حساسية مثل القيم الأمريكية وصراع العائلات والمجموعات الأثنية وعزوفها عن التأقلم مع تلك القّيم ، وتوصف مسرحياته بأنها توثيق علمي ودقيق لتلك التغييرات المضطربة التي كانت تجتاح الولايات المتحدة في اغلب السنين ، من أشهر تلك المسرحيات عالمياً ” كلهم أبنائي ” التي قدمها في العام 1947 وصور فيها تأثير الحرب العالمية الثانية على أسرة أمريكية ، وطرق فيها على وتر حساس عندما كشف عن العناصر الطفيلية المنتفعة من تلك الحرب ، وعلى أثر عرض تلك المسرحية في الولايات الأمريكية أتهم أرثر ميللر بأنه يفتقد الموقف الوطني ، لكنه دافع عن موقفه وقال أنه في تلك المسرحية كان يقوم بعمل وطني ويقول الحقيقة كاملة ، لم تتوقف المواجهة بينه وبين القوى صاحبة القرار عند ذلك التفسير بل امتدت لتشمل التحفظ على أراءه الليبرالية ونجد في مذكراته الكثير من النقد والحزن والألم للمرحلة التي سادت فيها الحملة المكارثية والتي شهدت ملاحقات واضطهاد لمجموعة كبيرة من أصحاب المواقف المؤثرة بسبب الانتماء لفكر معين أو الترويج لمفاهيم تتعارض مع خطط النظام آنذاك ، أدلى بشهادته أمام لجنة التحقيق المنبثقة عن الكونغرس ورفض في تلك الشهادة تقديم اعتراف واضح ومقرون بالأسماء عن رفاقة الذين كانت تحوم حولهم الشبهات وسجن على خلفية تحقيره لتلك اللجنة ، في مذكراته يصف ذلك الذي جرى على النحو التالي ” أشعر الآن كما شعرت دائماً من قبل ، وهو أنني لا اعتقد أنه يجب على الشخص أن يكون واشياً ليمارس مهنته بحرية في الولايات المتحدة ” ونجد أن مسرحيته المشهورة – البوتقة – تتحدث عن المرحلة المكارثية وتهدف إلى تحقيق التعبير القوي الذي ينطلق بشكل واضح لإدانة ورفض تلك الممارسات ، تلك المسرحية تحولت إلى فيلم يحمل ذات المسمى ولكنه لم ينجح كثيراً كما فعلت المسرحية …
زواج آرثر ميللر بمونرو
كان زواجهما في العام 1956 قد أثار عاصفة قوية من الدهشة والاستغراب بما يحمله من تناقض حيث جمع بين الكاتب المفكر صاحب المواقف السياسية مع نجمة الأغراء والجنس السابحة وسط الأضواء والمتكسبة من تعلق العيون بمفاتن جسدها وما تقوم به من حركات وأفعال حتى نشرت الصحف تعليقات من قبيل تهدئة تلك الموجة المتعاظمة وأشارت إلى أن الذي حصل هو زواج بين العقل والجمال ليس أكثر من ذلك .. وبالرغم من أن أرضية ذلك الزواج غير مناسبة إلا أنه صمد خمس سنوات كانت ثقيلة على الكاتب حيث تفاقمت خلالها المشاكل بينهما وصار كل شيء في آتون النهاية المتوقعة ، حصل الطلاق في العام 1961 أعقبه زواج ميللر للمرة الثالثة في ذات العام من المصورة الشهيرة ” أنجي مورات ” التي تعرف عليها في موقع تصوير فيلم قام هو بكتابة قصته وكانت مونرو تلعب دور البطولة فيه قبل انتحارها ، وقد عزا ميللر زواجه من مونرو بأنه أعجب كثيراً بشجاعتها كما عكس بعض تفاصيل حياتهما في المسرحية المشهورة “ بعد السقوط ” والتي ظهرت إلى الوجود عام 1963 كما ذكرها في كتاب يروي قصة حياته قائلاً ” نادراً ما كان أحد يأخذها بجدية باستثناء كونها تمثل رمزاً للجنس والأغراء ” في الفترة التي أعقبت زواجهما كرس جلّ وقته لتنفيذ طلباتها وأحاطتها برعاية خاصة وتفهم مشكلاتها ومساعدتها على تجاوز المعوقات الناتجة عن دورها كممثلة من نمط خاص ، كانت رغباتها ونزواتها كثيرة متعاظمة صار الكاتب يعوم معها ويقترب من لحظة الغرق .
لقد اعترف آرثر ميللر في مذكراته أن تلك الفترة كانت تمثل دوامة كبيرة بالنسبة له حيث المشاكل في تزايد مستمر ولذلك لم يبدع خلال تلك الفترة سوى سيناريو ” اللامنتمون ” الذي كتبه في العام 1960 والذي أهداه إلى زوجته وكما حصل فقد كان ذلك السيناريو يمثل نهاية المطاف التي وضعت الخاتمة لحياة مارلين مونرو ، وقد تم عرض ذلك الفيلم بعد طلاقهما وقبل أن تضع مونرو حداً لحياتها الصاخبة وذلك في الخامس من أغسطس عام 1962 ، زواجه المتعثر من النجمة الأسطورة قدم له الفضاء المطلوب لكتابة مسرحيتين ؛ الأولى كتبها ولم يكن قد مرّ على انتحار زوجته سوى عامين وقد اسماها ” بعد السقوط ” والمسرحية الثانية كانت ” أقرب إليه من حبل الوريد ” بعد تلك المرحلة توقف عن الكتابة لعدة أعوام لاحقة وقد وصل إلى قناعة بعدم جدوى مواصلة الإنتاج في الولايات المتحدة وقد أعلن ذلك الموقف بشكل تام وصرح للصحافة بأنه يرى ” أن الكُتاب في الولايات المتحدة الأميركية يعاملون كأدوات مهمتها إنتاج التسلية والترفيه ، وتلك نظرة قاصرة وهي على خلاف الحقيقة التي نؤمن بها والتي تحتم أن يكون الكتاب مفكرون ومعلمون للأخلاق ولديهم المسئولية الأولى للدفاع عن وجود الإنسان في كل بقاع العالم ” ..
لم يتوقف عند هذا الحد في المواجهة بل رفع من حدة التصريحات الشديدة المناوئة للواقع المفروض وضمن ذلك حملة كبيرة قادها ضد الوضع السيئ الذي تفرضه بردواي على الأعمال الإبداعية الفنية وتلك القيود التي تفرضها من أجل أن تحقق الربح وتقوم بتحويل الفن والفكر بشكل قسري إلى تجارة فاسدة ، تلك الحملة الضارية سانده فيها بعض الكتاب وأصحاب المواهب وعلى أثر ذلك قرر إعادة النظر في النهايات التي تكتب للمسرحيات والأعمال الأدبية ، وقال أنه ينطلق من واقع مؤلفاته التي عرضت ” أعتقد أن أغلب النهايات التي وضعتها سيئة ، وهذا يسبب الإحباط للبشرية ” ، وفي خضم تلك المواجهة شعر بارتياح وثقة جديدة عندما فازت مسرحيته الموسومة ” الزجاج المكسور ” بجائزة ” أوليفر ” لأفضل مسرحية عندما عرضت في بريطانيا واستقبلها الجمهور والنقاد بالكثير من الاهتمام والترحيب ، ويضاف إلى ذلك الحدث حدثاً أخر مهم يتمثل بتجربته المثيرة والتي قام من خلالها بإخراج مسرحية ” موت بائع جوال ” وذلك للمسرح الصيني ، ولعل المشهد الأخير الذي رافق ارثر ميللر في رحلته إلى العالم الآخر هو الصور المؤلمة والحزينة عن الحرب الأمريكية في العراق ….