آراء

الرغبة… في المآسي الشكسبيرية

والتساؤلات التي تثار هي :هل الرغبة تدفع الأبطال لصياغة الحدث ، ولقلب موازين الحياة ؟ وهل الحياة على هذه الدرجة من الشد النفسي حدا يبلغ بها من الصعوبة التقاط الأنفاس.

وهل الرغبة الجامحة التي لاتعرف التوقف أو السكون هي من تغذي العقل البشري وتنحت اهتماماته وتوجهاته ؟ فما شكل الرغبة ؟ وما وسائلها وغاياتها !!؟ ففي نص يوليوس قيصر ، كانت هناك الرغبة التي وقع بها( قيصر ) حتى سال لعابه على التاج وان تمنع في البدء؟.

ألم ترديه الرغبة قتيلا مضرجا بالدماء بعد ان توالت الخناجر طعنا لجسده ؟ الم تنقلب عليه رغبته الجامحة بالاستئثار بالتاج – السلطة -على الرغم من حلم راوده، وكان بمثابة النبوءة التي تكهن بما سيؤول اليه( قيصر ) .

إذ تكالب عليه المقربين من الحلقة الأولى وأحالوا جسده إلى كومة لحم مزقته الطعنات ، وتسأل مندهشا مخاطبا احد مقربيه قبل ان يلفظ أنفاسه قائلا : حتى أنت يابروتس! وجملته كررها العالم من بعده ، لمن يطعن غدرا من صديق .فماذا لو تسامى عن التاج ؟ أما كان سيتجنب الموت قتلا ، ويدرأ عن نفسه مشقة الموت بالطعنات مضرجا بالدماء، ويتجنب الفتنة التي أحدثها قتله ، وجنب الآخرين حلقة التآمر ضده وما استجلبه ذلك من دمار عصف بكل شيء تقريبا .الم تكن لديه رجاحة العقل، أو لنقل : الم يشبع من التاج الذي وضعه على رأسه حفنة من السنين ؟ بم كان يفكر !!؟ وقد انقلب عليه الأصدقاء قبل الأعداء ، أحسن الظن أم راودته الشكوك ولم يلتفت إليها ولم يحسب لها حسابا ؟ فماذا لولم يمت القيصر ؟ أتبقى رغبته الجامحة بالتاج هي أم تتغير ؟.

ألم تغير النبوءة التي حملتها الساحرات في مسرحية ( ماكبث) من سياق حياته؟ الم تدفعه للتفكير، ويبث هواجسه لزوجته التي تعلقت بالرغبة في أن يصبح زوجها ملكا وتكون هي الملكة ؟ الم يدفعها للتفكير بغدر الملك الضيف في قصرها وقتله !!؟ الم تلصق التهمة بحرس الملك المسكين ، يالها من امرأة غريبة وعجيبة في إرادة تملكتها الرغبة أن تصبح ملكة ، ولن تبالي أبدا في غسل الدم بالدم ، فتوج ماكبث الملوث المشاعر ومغتصب العرش ملكا ، وتحققت رغبته ورغبتها ، ولكن ماذا بعدها؟؟ أيكونا سعيدين !!؟ الم تبلغ الليدي حدً الجنون وبقعة الدم تطاردها، وتقض مضجعها ، ماذا فعلت تلك الرغبة ؟ الم تكن الجريمة طريقها وتتوالي الجرائم من بعدها ، وأين الرغبة من السعادة !؟ أعاش ماكبث والليدي سعداء بالعرش الذي أغتصبها ؟ ألم تتحول حياتهما إلى جحيم بانتظار لحظة الموت قتلا !!؟ الم يكن (لير) تواقا بتقسيم مملكته لبناته الثلاثة ، ويبقى هو نقسه ملكا دون مملكة ،دون سلطه ، الم تكن رغبته التخلي عن السلطة لصالح بناته ،لكن رغبته بالسلطة كانت اكبر، وشعر بالمهانة والخزي لأنه لم يعامل بوصفه ملكا مع حاشيته وحرسه.

فأين الملك من رغبته الجامحة !؟ الم يغضب على بنته الصغرى ، الم يشاطر البهلول هواجسه؟ الم تتكسر الضربات الماحقة على ظهره؟ الم يحس بالعجز والأنتهاك، الم يشعر أن الطبيعة تمحقه ، لقد تحول الملك تدريجيا إلى بهلول إن لم يكن بهلولا بالفعل .

إن سريان الرغبة واتقادها واستعارها ، يقلب كيان الأبطال من النقيض إلى النقيض.

 إذ تتورم أحلامهم ،وتتمزق أفكارهم ،وتتشتت قدراتهم ، ف ( لير) صار ك ( البهلول ) يقول الحكمة وهو المذل المهان من أقرب الناس إليه .

فأين رغبته أن يحيا ملكا دون مملكة !!؟ إن اتساع الرغبة واصطدامها بالعقبات، وانفلات القدرة بالسيطرة عليها، يخلق شبكة هائلة من المشاعر والأفكار حدًا ،يشعر بها البطل بالضعف والانكسار والانحطاط والتهشم وأن كان ملكا.

نرى إن الرغبة ديدن الأبطال ، وصورة وان بدت متهشمة إلا أنها صورة حقيقتهم،التي يصعب فهم الأبطال بدونها ، لهذا لايمكن لنا أن نتفهم لير العملاق بانتكاسته القاتلة من غير الوقوف عند رغبته المهيمنة على عقله وسلوكه ، كونه أراد أن يكون ملكا طليقا باسطا يديه من غير مملكة تحت أمرته.

ملك أباح لنفسه غير المباح فترنح وشرب السقم وعاش لحظات ارتعش فيها العرش في نفسه مثلما ارتجفت رغبته الجامحة وهي تصدُ بقوة وعنف ، فأنكفأت الرغبة إلى عذاب مدمر لكيانه ولكياسته المهتزة .

 وها هو هملت وان كان الباحث عن الحقيقة ، برغبة عقلية وشعور عارم غلف سلوكه وأفكاره ، إلا انه يقتل بولونويوس وبالتالي يصبح قاتل ويطلب للمنازلة بالسيف ويفقد حبيبته أوفيليا التي تصاب بالجنون ، الرغبة في هاملت كمن يقرع بالفاس جدران القلعة التي أخذ بتحطيمها ، يحطم في الوقت ذاته حياته فيجرف الكل للنهاية ، ان الرغبة الحقيقية للكشف عن الحقيقة التي طمست، تكلف غاليا ،وتضع حواجزا في طرقات الحياة السوية ، فهاملت يتهم حبيبته بعد أن أحس بولائها لأبيها وتسقط أخباره، فقد تحولت من وجهة نظر هاملت إلى صف الأعداء، مما سلبها طمأنينتها واستقرارها وافقدها جذوة الحياة وماتت فاقدة للرشد تحمل في أعماقها صراعها بين رغبتها الهائلة في الاندماج بهاملت والواجب الذي يطرق على حياتها الذي يشدد على طاعة الابناء للآباء .

وبذلك فقدت من تحب حين اختارت الواجب، وفقدها هاملت حين أصر بالبحث عن الحقيقة وشقق دجى الليل بالصبر وكشف الحقيقة الرغبة وان تميزت بالصدق إلا أن ذلك لايعفي أبدا ترنح الأبطال بسطوتها وهيمنتها وتحديد مصائرهم في ضوئها .

 أما عطيل الذي كان الواجب والتعلق به حبل افقده من يحب والأمر انه نفذ بنفسه الحكم على دزدمونه وقتلها على سرير الزوجية ، عطيل لم يخطط للقتل وإنما ياجو من جره بدهاء للقيام بذلك بعد الصاق تهمه الخيانة بها مع صديقهما ، وما فعله ياجو، يعود بسبب رغبته بالأنتقام التي ملأت نفسه ، وشعور بالغبن قد غلف حياته، أن ياجو بطل النص وان كان البطل المعلن عطيل ، فياجو وضع خططه وبرامجه للإيقاع بالإبطال وكأنهم لعبة بيده

وتمكن من استدراجهم جميعا وإلصاق تهمة الخيانة بدزدمونه، ان اتقاد الرغبة واتسعها وتناميها ككرة من النار المتدحرجة ،انما هي رغبة تدميرية تتلخص بتحطيم الكل من اجل بطل واحد ، هو ياجو الذي أوقع قائده عطيل بفخ لايمكن الخلاص منه بوصفه شرقي الجذور وموضوعة الشرف ستهيمن على سلوكه وان كان قويا وعاشقا لدزدمونه، ان الرغبة الجامحة التي تشكل منظورا للبطل ، لايقف أمامها حد ، كما هو حال ياجو الذي يفكر بالانتقام وجرجر الآخرين ودفعهم بشباكه بقصد تدميرهم والانتقام منهم، وإذلالهم .

شكسبير الراقي المتفهم للنفس البشرية وهي تحيا في منزلقات الأفكار والأحداث والرغبات المتعالية ، يكشف ويدق ناقوس الخطر للنفس المليئة بالغيض ،أو النبل لكنها تواجه عالما آخر يطمس وجودها ، أو ينتقصها ، أو يحاربها ، فتستشيط الرغبة وتنهض من غفوتها لتعلن عن النفس التي تعاني لحظات التشظي والتمزق والتيه وان كانت بأفعالها السلوكية تعبر عن عمق استراتيجي ، الا إن ذلك لايلغي حالة الضياع والقلق وعدم الاستقرار .

إن الأبطال حاملي الرغبات والمهددين للأبطال الآخرين ، إنما يشكلون العالم بأدق صوره ، العالم الذي ازداد تكثيفا وتقطيرا حد الهلع من شدة الضغط والرص ولملمة الأحداث وانفجاراته المتعاقبة سببيا أو منطقيا ، وكما يؤسس شكسبير ذلك . فالرغبات تعد المحرك للخطط التي يرسمها الابطال لسلوكهم من جانب ، ولما سينهض الأبطال الآخرين به من خطط وأفعال من جانب آخر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق