مكاتب الإعلام والإتّصال العمومي التّكوين والـتّأطير، ساق مبتورة والثّانية عرجاء
التّكوين والتأطير في مجال الإعلام والإتّصال العمومي هو معضلة المعضلات التي يكابدها أهل القطاع جيلا عبر جيل ولا وجود لإستراتيجيّة واضحة تسمح بإجراء دورات تكوينيّة من شأنها أن ترتقي بمؤهّلات أهل المهنة إلى المستوى المأمول الذي يمكّنهم من تطوير خبراتهم و الرفع من سقف مهاراتهم.
لا سيما وأنهم يعملون في قطاع حيويّ يعرف بحساسيّته الشّديدة باعتباره ديدن العمل الرّسمي وأساس نجاح كلّ الإستحقاقات الوطنيّة. جهات بمسمّى” مؤسسات للتّدريب والتّكوين الإعلامي والإتّصالي” يؤتى بها من بلاد أجنبيّة لإجراء دورات تدريبيّة وتكوينيّة لعدد من المكلّفين بالإعلام والإتصال العمومي لفترات وجيزة تتأرجح بين 3 أيّام وأسبوعين، منقوصي أيام الرّاحة الأسبوعيّة ،هذا التّكوين الذي يختصّ بمسائل بديهيّة تلوك أبجديّات مفاهيم الإعلام والإتّصال التى يدرسها طالب الإعلام بمعهد الصّحافة وعلوم الإخبار في سنوات دراسته الأولى.
وتهمّ تحديدا “الأجناس الصحفيّة”، صياغة “البلاغ الصّحفي”، إعداد”النّدوة الصحفيّة” فضلا عن “شبه دروس” تقدّم في مجال “الإتصال السياسي” و”خلايا الأزمات” و”تكوين المكوّنين”، على أن كل الحصص التدريبيّة تنتهي بإسناد شهادات في الغرض لا تسمن ولا تغني من جوع و”طاح الكاف على ظلّو”، ويعود المتكوّنون إلى مكاتبهم وكأنّ شيئا لم يكن فلا هم شفوا غليلهم من التكوين ولا هم انبسطوا بـ “راحة تدريبيّة” تبعدهم قليلا عن رتابة العمل وأجوائه المشحونة، بمعنى كمن “هرب من القطرة إلى الميزاب”.
أكثر من ذلك فإنّ بعض مؤسسات التّكوين الأجنبي في قطاع الإعلام والإتّصال صار لها من الجرأة التي دفعتها إلى المبادرة بـ”اقتراح”، وربمّا في الباطن فرض، خرائط العمل وبرامجه الراهنة ووضع الإستراتيجيّات المستقبليّة بدعوى الحرص على الرقيّ بالخدمات المسداة.
ولم تجد هذه المؤسّسات الأجنبيّة المختصّة في “التّدريب الإعلامي والإتّصالي” حرجا في طرح رؤاها ومحاولة تطبيق مناهجها و”إلزامنا” – بأسلوب مقنّع ومغلّف – باتّباعها في سير أعمالنا وانتهاجها سبيلا في إقامة علاقاتنا مع بقيّة الأطراف المتداخلة في العمليّة الإعلاميّة والإتصاليّة، أمر جديد مستجدّ وهو أيضا محيّر وسابقة باعتبار أنّ ذلك يعدّ تماسّا خطيرا ودخولا غير مبرّر إلى دوائر رسميّة محظورة من المفترض أن تكون محجّرة والإقتراب منها ممنوع بالبتات بالنظر إلى ما يفضيه ذلك من كشف لأسرار العمل في مؤسساتنا الرسميّة والحكوميّة واطّلاع أجانب عليها بكلّ يسر ودون رقابة وبلا ضبط للتحرّكات والمهامّ.
وهو أمر مرفوض استنادا إلى الأعراف والمنطق وبالرّجوع إلى قاعدة ألفناها وعملنا على نهجها والتزمنا بها، قاعدة تقول :”مؤسّساتنا وطنيّة، سيّدة قراراتها، مستقلّة مواقفها، مبتكرة لإستراتيجياتها، محافظة على أسرار العمل صلبها حافظة لكلّ أبنائها، صائنة لهم”. غريب اليوم من حيث الواقع والمنطق، وعجيب ما يفرض من مناهج لما يقال ويوصف من الجهات الرسميّة بأنّه “تكوين” و”تدريب” فـ”ما هكذا تورد الإبل” و”ليس هكذا تؤكل الكتف”، وجدير قبل تنفيذ أيّة برامج تعاون أو توقيع مذكّرات تفاهم أو عقد اتفاقيّات مع مؤسّسات من الخارج مشورة المشتغلين في القطاع وإطلاق استشارة تشمل كل المكلفين بالإعلام والإتّصال في جميع مؤسّساتنا العموميّة، دون استثناء وبلا إقصاء.
حتّى يتبيّن الجميع ما يفترض فعله وتتضح الرؤية حول ما يستوجب اتخاذه من تدابير، حريّ توخّي هذا الأسلوب المنهجي قبل المرور إلى مرحلة “الإستنجاد” بمؤسسات وقع “التّعاقد” معها مع أطراف رسميّة، بلا رويّة و دون الرجوع للمعنيين بالأمر، وهو لعمري أمر يستحقّ التّعجيل بمراجعته. بلادنا تحتكم على مؤسّسات ذائع صيتها وناصعة سمعتها في مجال تكوين الإعلاميين والإتصاليين وتأطيرهم وفي صدارتها المركز الإفريقي لتدريب الصّحفيين والإتّصاليين.
الذي لا يشكّ أحد من العقلاء أنّه ما انفكّ يقدّم خدمات جليلة وأن العديد من الصحفيين والإعلاميين والإتّصاليين استفادوا من غزارة الدروس التكوينيّة وثراء محتواها والتي يشرف عليها أكاديميّون أجلاّء لهم “باع وذراع” في كل كبيرة وصغيرة لها صلة بالإعلام والإتّصال.
لكن الإفادة الحاصلة لم ينتفع بها غير نزر قليل مقارنة بالفئة الواسعة للمشتغلين بالقطاع، هذا المركز يجب أن يحمل اليوم أمانة أكبر من ذي قبل ويخصّص دورات تدريبيّة متتابعة ومتوازنة من حيث الهامش الزمني لفائدة الإعلاميين والإتصاليين بجميع المؤسّسات العموميّة، على أن تفتح الأبواب أمام الجميع بما يضمن التّكوين الناجع والتّمرين الفعّال لكافة المتكوّنين. هناك مؤسّسات ذات صلة بهذا الشّأن ومنها مركزي “السفير” و”إفادة” واللذين لا يقلّ دورهما وإسهاماتهما في التقدّم بالمشهد الإعلامي والإتّصالي عن المركز الإفريقي لتدريب الصّحفيين والإتّصاليين، ولكن رغم الجهود المبذولة فإنّ أنشطة المركزين مازالت مقتصرة على النّظري وتنظيم الندوات الصّحفيّة واللقاءات الإعلاميّة تتوزّع على فترات طويلة الأمد،وغالبا ما يكون الشعار والمسائل المطروحة مجانب للواقع ولا يطرح مشاغل الواقع ولا يترجم تطلّعات أهله.
الإعلام والإتّصال العمومي في تونس له تاريخه العريق وله رموزه وكفاءاته التي لا يشقّ لها غبار، وأساتذتنا وخبراؤنا في المجال لهم صولاتهم ومآثرهم في كلّ الصّروح الأكاديميّة والجامعيّة وفي مقدّمتها معهد الصحافة وعلوم الإخبار وفي جلّ المواقع المهنيّة في مختلف مؤسسات الدّولة ذات العلاقة، أساتذة أفذاذ وأسماء لها وزنها نذكر منها، دون الحصر، عبد الكريم الحيزاوي وصلاح الدّين الدّريدي ومحمّد الأمين عواسة وهاني مبارك ومحمّد الفهري شلبي وحميدة البور وكثير من الأكاديميين الذين لهم من القدرة والأهليّة والكفاءة التي تخوّل لهم، بإقتدار، تحمّل أمانة تكوين وتأطير المكلّفين بالإعلام والإتّصال و إفادتهم بما يلزم للقيام بأدوارهم على أفضل الوجوه سيما عبر إمدادهم بالزّاد المطلوب لتقديم عمل إعلامي واتّصالي ناجح وناجع يرتقي إلى المواصفات. بالمحصلة فإنّ ترك الوضع على ماهو عليه في الوقت الراهن، هو تأكيد على صحّة التّوصيف الذي ما انفكّت تطلقه فئة واسعة من أصحاب المهنة، توصيف مفاده :”التأطير والتكوين بالنسبة لقطاع الإعلام والإتصال العمومي، ساق مبتورة والثانية عرجاء”.