الرّمز والبنية الذهنية
وقد عجت وإمتلأت الذاكرة البشرية برموز كونتها او استحدثتها لتعبر عن عمق وإيغال الانسان في الحياة والعالم والكون –الذي شكل ترسانة مهابة ومفزعة في ظواهر الطبيعة التي استشعر الانسان في بداياته الاولى بضعفه امامها وانهزامه من آثرها، لهذا آثر ان يذعن لها ويستمر وضعه مستكينا للكون الفسيح، متكئا عليه، في إيجاد معلولاته .
التي تزاحمت وشكلت تساؤلات تستفز وجوده البشري، لهذا اندمج مع الطبيعة فهي مستقره واوجاعها اوجاعه، مما ولد رموزا حيكت على منوال هذه الرابطة المندمجة مع الطبيعة بكل مظاهرها واشكالها، فشكل العقل البشري خرافاته في تلك الحقب التاريخية البعيدة، وساهمت ببلورة شكل من اشكال الوعي الطفولي –الحضاري- أو بكلمة أدق انها بنية ذهنية اعتمدت الميتافيزيقي محورا وغيبت الموجودات لهذا المطلق المهمين.
وبهذا صيغت الخرافات، كاشفة عن فضاءات متعددة وفجوات في طبيعة تشكل ذلك العقل البشري، والخرافة رمز آخر للتعبير عن الطابع المميز لإنسان تلك الحقب، انها نوع من الشد ومحاولة تفسير المظاهر والافكار والرغبات بصيغة الخرافة ونسقها، بوصفها باحثة عن ذات الانسان المنغمسة او المتماهية تماما مع المطلق، ومن ذلك، تساؤلات خفية شكلت حفرا في الايمان التام بالمطلق، لان التساؤلات، ومهما كان نوعها او ثقلها او تعبيرها، تصوغ فكرا في طور السيرورة، تعده استقصاء للفكر وهو وضع حركي، بينما نجد الاساطير بوصفها هاجساً بشري دونت تطلعات وآمال بني البشر، وارتفع سقف التساؤلات بحثا عن الكوني، منطلقا من الارضي، بينما كانت الخرافة تجليا للمطلق على الارضي، اما الاساطير، فاتسقت في حركة البشر، وعبرت عن إلتواءات الحياة، ووظائفها المتعددة، وحضاراتها المتنوعة، والمدنية التي شهدها البشر في الحضارات الاولى ادت لخلق تصنيف وظيفي للإله، وبالتالي صيغت الاساطير باحثة عن اشكال اكثر تقدما، بل طبع ابطالها بطابع بشري وتكاد تكون خصائصهم في الحب والكره والزواج، هي ذاتها خصال بشرية، ومعنى ذلك، صاغ الانسان الاساطير وابطالها معبرين عن اللجة العميقة والترسانة الضخمة من المخاوف المحدقة التي يحياها، فالرمز الاسطوري وكأنه انعقد على وفق عقد اجتماعي، نهل من المجتمعات الحضارية التي تمخض عنها لكيان البطل –الرمز.
اذ ان هذه الوظائفية للبطل شكلت طابعا فريدا للوظائفية المناطة به فعمقت الرابط الوجداني وجعلت من البطل الاسطوري رمزا لارادة الانسان او تعبيرا عنه، فصار للمظاهر الطبيعة على اختلافها إله، يتضرعون اليه او يقدمون النذور او يقف معهم، كما صار للحب إله، وللعاشق إله، ولبوابات الجحيم آله، وللحرب آله، ويلاحظ أن هذا التخصيص يكشف عن تطور نوعي في التفكير وارتقاء في التعبير وتحصيل لغوي معرفي هائل اذا ما قورن بالحقب التاريخية السابقة. فالبنية الذهنية، نحت للرموز قدرا اوفر من التحديدات التي ساهمت بتعظيم الدور البشري في الحياة الحضارية آنذاك فمهد للانسان البحث عن رسائل التعبير الجمالية في الفنون، النحت مثلا كان يكشف عن قدرات الانسان وقد وجدت الحياة، بكل شدتها وقسوتها وجدت من يعبر عنها، فالجداريات الهائلة والقبور لدى المصريين القدماء، والاهرامات، وحضارة العراقيين القدماء، وما بقي من اعمالهم الفنية والعمرانية، يدلل عن خصائص تلك الحضارات والرمز المستحوذ على الحياة، في الدفاع عما وصل اليه البشر وتدوين ذلك تاريخيا، ليسجلوا ما تم انجازه وبالتالي خلق ميسماً آخر للبحث والتقصي، فعلى الرغم من تقدم الانسانية بخطوات واسعة.
الا ان البنية العميقة للفكر البشري ترمز حالة عدم الرضا او بما تم انجازه، فالبنية الذهنية لتلك الحضارات ترسانة ضخمة إلا أن نواة البحث مستقرة في الذات البشرية، وهذا الامر مهد الطريق للحكايات منها: الف ليلة وليلة، وهي الاخرى رمز، غير انه رمز جلي، فحكاياتها وابطالها ومعانيها واجواؤها رموز تتشكل بصورة فسيفسائية، حالمة، غرائبية وعجائبية، فيها المدهش والمنفر، المضحك والمبكي، القوي والضعيف، الامير والجلاد، مثلما تتضمن البحار والبراري، الطرقات والبيوت، المساجد والحانات. العالم عاج والحياة زاخرة.
فالحكايات، رموز متعددة حتى في نظام الحكاية ذاته في بنيتها المتداخلة اللولبية.. فيها القص داخل القص والبطل داخل البطل والموقف داخل الموقف، وهذه التواليدة الغريبة، كشفت عن عقل مونتاجي عميق في شكل القص ذاته. ويلاحظ ان تشظي وتفتت الحكاية، ليتشكل الرمز من رحم الهشاشة، والرمز هو المنطقة المبحوثة في الحكاية، فالشكل جاء متسقا مع لغة التعبير، فالرمز داخل الرمز. وتجدر الاشارة إلى كون طبقات الرمز تعادل تفتته وتوزعه، وهذا يشير لمعنى دلالي اخر، ان وظيفة الرمز لم تعد أحادية وإنما متشعبة، باحثة، لا عن معنى محدد فحسب، وإنما عن معان أخرى قد تكون مغايرة للرمز أو مجاورة له، او متباعدة عنه، فلم يعد للرمز معنى واحد يوصف به وانما اشتغل الرمز في الوجدان والعقل البشري ليصوغ تنميطا آخر للفضاءات والفجوات والمناطق غير المفهومة في الذاكرة البشرية.
انه غوص وتعمق وبحث عن الانتشار والتجذر والايغال في الذاكرة الانسانية –بوصفها متحركة ومتحفزة ما دام الرمز لم يعد ايقونيا متماثلا مع معناه، لقد اضحى الرمز تعددي الوظيفة، قابلاً للتأويل، مانحا فرصة للجدل العقلي وكيفية الادراك، وبهذا صار الرمز طاقة عمياء تتحرك بأكثر من اتجاه وتبحث باصرار عن تشكيل معانيها.
اما الحكايات الشعبية والتناقل الشفاهي لها، فانها تمثل خاصية اخرى للبنية الذهنية المستفيقة على حياة اكثر تشعبا واندياحا في زوايا الحياة ومسالكها ومشاربها وتنوعها، وخاصيتها في تناقلها وقوتها في ذلك التناقل الشفاهي، اذ انها تكتسب معان اُخر لا تثقل الرمز، وانما تمنطقه وتوسعه وتمنحه من البيئة الشيء الكثير، فالرمز –البطل هو ذاته في هذه الامة أو تلك، لكن طرائقه وموضوعاته، ومسالكه ودهاءه يأخذ من البيئة المادية والروحية لهذه الامة او تلك، بحسب حركته، فالمجتمعات تضفي خصائصها وتفرض طوبغرافيتها وامكنتها على البطل- الرمز.
وهذا يعني ان البنية الذهنية لاي مجتمع تفرض سطوتها على تلك الحكاية الشعبية المنقولة فتضع اللمسات المكانية حيث استقر بطلها وتحرك، مما يعني توظيف تلك الحكاية- او الرمز، لصالح هذا المجتمع او ذاك- وهذا يبلور صورة العقد الاجتماعي بتدجين الحكاية الشعبية، مما يرفع صورة البطل بوصفه رمزا وان تم استقاء الحكاية من مجتمع آخر، لانهم حملوا البطل بكل ما يحلمون او يفكرون او يشعرون، وبذلك اصبح البطل رمزاً حقيقياً للمجتمع الذي استقرت فيه الحكاية. والرمز ها هنا قوة تتحرك وتنبش ذلك المجتمع وتأخذ من صور حياتها وافكارها مما يجعله منتميا لهذه البيئة التي تلقفته، واضحى بينها مقبولا. والرمز، يبقى حاجة للتعبير، وتكثيفاً للمعاني التي قد يعجز عن البوح بها، فالرمز حامل ومحمول لمعناه، وللمعنى المكتسب ضمن انغراسه وتمركزه في الذاكرة البشرية.