وقـد يتناول مسرحـي موضـوعا غـاية في الحيوية ويشكل قلقـا لأبنــاء مجتمعـه، الا انــه يتنــاولـه من زاويـة ومنظـور جمالي فلسفي غير متـوقـع، ولا يعيد استنساخ الـواقـع، وانما يعيد لملمة الموضوع واكتشاف المثير والخفـي والأكثـر شــغفـا، فيرتقـي بالموضوع المعـروف أصـلا ويسلط الضوء علـى قضايــا جوهرية تعــد كـشـفـا وارتقــاء بالمضمون والشكل الفني للعرض.
إن المسألة شائكة ومعقدة للغاية، ذلك ان الفنون والآداب تشتغل عليها، وكل صنف أو جنس منها يهيأ وسائله الخاصة بالتعبير.
والسؤال أيمكن ان تخون تلك الوسائل ؟ الاتبدو الكثير من الأعمال الشعرية والأدبية والفنية، مجردة من الحس الجمالي، بين التكرار، وأعادة نسخ الواقع، وجترار الأفكار، بحيث لايكون لها نصيب من الابداع الجمالي والفني والفلسفي. الم تقع عروض مسرحية بهذا الفخ؟ والسؤال: ما السبب، أقلة وعي فني أم جفاف الابداع وتيبس المخيلة، أم قلة حنكة المبدع وعدم تفهمه وتشربه للقيمة الجمالية؟. ولماذا تتساقط أسماء وأعمال أدبية وفنية بمجرد ولادتها للحياة الثقافية. اليس الأمر بغريب!!؟.
إن ذلك يمهد لسؤال آخرأكثر عمقا هو: ما الابداع؟ قيل: عندما تعجز الكلمة يكون الابداع.
ولكن هل تعجز الكلمة فعلا عند روائي على غرار:دستويفسكي، تولستوي، همنغواي، كازنتزاكي. البيركامو، أو مثل فحول الشعراء: الجواهري، والسياب وغيرهما. اليست الكلمة مطيتهم، وتهرس في معاجمهم، وتلوى كيفما يشاءون. فالكلمة لا تعجز أمامهم، لأنهم ينحتونها بطواعية وسلاسة، بدربتهم وخبرتهم، فتكون الكلمة خادم مطيع للمعنى المراد بلوغه فتنثال الكلمات / الصور، بمعاني تكتنزها أو تًحملها.
اذا لاتعجز الكلمة بيد المبدع ولاتخيب مطلقا، أنما تكون وسيلته وغايته في الوقت ذاته. وآخر يقول عن الابداع: انه خلق شيء من اللاشيء تقريبا. ويبدو ان الأمر شـائـك في المقولة الأخيرة، فما من شيء ألا وتناصَ مع شيء آخر، والتناص لا يلغي الابداع، فالأخذ والتـداخل والامتصاص أمر تسوغه العملية الأبداعية بأمتياز. فكم من مؤلف كتب نصا عن الاسطورة الأغريقية: اوديب الملك، ولم يبق الا نص(سوفوكلس) خالدا بينما تراجعت النصوص الأخرى وصارت بطي النسيان، الكل (خلق!!) نصه الأوديبي.
لكن ليس الكل صمد امام الزمن. والسؤال يتكرر: ما السبب!!؟ وقد يكون التعريف الآتي هو الأكثر تعبيرا عما يدور في العملية الأبداعية اذ يوصف التجريب المسرحي بمعنى الابداع قائلا: كسر مدرك والاتيان بمدرك جديد.
في ضوء ما تقدم، يفهم ان توصيف المنجز الابداعي يكون، بعد عملية اكتماله وطرحه وتناوله: أي بعدما تولد القصيدة وتنشر، والرواية وتطبع، والعرض المسرحي ويشاهد. والسؤال: كيف يكون الشاعر أو الفنان أو القاص مبدعا دون سواه من أقرانه الذين يشتغلون في الباب الفني والأدبي ذاته؟ في البدء يمكن لنا القول: ان الابداع عملية فنية داخلية يشتغل العقل عليها وكل خزين المبدع المعرفي والثقافي عليها. وما المنجز: الأدبي، الشعري، الفني. ماهو ألا محصلة نهائية، لعملية الدبيب الداخلي الناشب والاختمار الذي تتطلبه العملية الابداعية نفسها.
إذ يعد الأبداع من أصعب القضايا التي يمكن التطرق اليها لأنها ببساطة خاصة وليست عامة، أنها تتشكل على وفق منظور ذاتي خالص للمبدع: الفنان، الشاعر، الروائي.
ولا يمكن الدخول بعالمه، وان أطلعنا عليه، سيكون بعد ان مرً بها المبدع بالتجربة الابداعية وأجتازها، وما توصيفها، فهو المرحلة التالية أيَ بعد ان هدأت عملية الأحتراق الداخلية الشبيهة (بتنور) بالسنة النار المتطايرة. وقد يشل المبدع عن التفكير بأمور خارج عن دائرة اهتمامه وتقصيه لموضوعه الذي يشكل هماً كبيرا جاثما على صدره، وهو يتحين الفرصة باصطياد الأفكار،وجرجرتها من عالم الخيال الواسع وجعلها جزءاً لايتجزأ من انجازه الابداعي. ومن الطبيعي ان عملية اقتناص لحظة الابداع التي يتم فيها تحقيق المنجز ليست بالسهلة بالمرة، أنها تشبه المطاردة غير المعلنة، وصعبة الفهم والتوضيح، فالفكرة التي تمرق امام المبدع يصطادها ويتمسك بها، وتستهويه فتسيطرعليه، ولايمكنه الفكاك منها الا بجعلها متجلية.
والا كيف لنا ان نفهم ان رساما يقف امام لوحته عامين لينجزها؟ والسؤال: ما الافكار التي مرقت أمامه وهو يضع لمساته على اللوحة اليوم بعد اليوم؟ اولافكار تشكل دبيبا لا يتوقف، وعليه ان يختار بين هذه وتلك من الأفكار والصور. انها لحظات عمل الفنان، لكنها لحظات أحتراق،غير مرئية ويصعب ان يحس بها الآخرين، انها تعنيه هو، الذي لايستطيع ايً كان من مساعدته، والأغرب انه لاينتظر المساعدة من أحد، يعيش قلقه ودوامته وحيدا مكتفيا بنفسه للتغلب على الفكرة غير المرئية ليقبض عليها ويزجها ضمن خطاب منجزه الجمالي أو الشعري أو الادبي. ان دوامة المبدع قبل الانجاز شبيهة بالتشتت، الضياع، التي تكون كتيار يجتاح استقراره الذي يفتقراليه، انه الدبيب المتحرك الذي لا يعرف التوقف، الضجة الصاخبة وان كان المبدع يبدو أحيانا هادئا لا يقوم بشيء.
ان المعركة في داخل نفسه وعقله. وهذا الاجتياح غير المعلن، الذي لا يفهمه الا هو، فيصوغ لنا سلوكا غير سوي أحيانا، فقد أخذ وتم الاستحواذ عليه، وماعاد بقادر على التراجع، وانما ينتنظر لحظة الارتماء بفردوس اللحظة الابداعية، متجاهلا الزمان والمكان، وما يحيطه، انه هناك في عالم خيالي سابح، ينتظر و يعمل من أجل الأمساك بقوة بتلك اللحظة السرمدية.
والسؤال متى يعود المبدع الى وضعه الطبيعي السويَ؟ ان أنجاز العمل الفني، يكون السبب الأساس لعودة الفنان ونفسه الى الاستقرار، بعد ان اكتمل المنجز الابداعي، وصار مدركا حسيا، وقبلها كان مكتملا بعقله. كما يؤكد ذلك (مايكل انجلو) حين قال: الفنان يرسم بعقله لا بيده. فايُ عملية مونتاجية تشتغل في عقله؟ وأي ألوان المشاعر اجتاحته؟ ان نقف نتأمل (دستويفسكي) الذي يجلس حائرا بعد خسارته بلعبة القمار واذا به يقرأ قصاصة جريدة يذكر بها قصة شاب يقتل أمرأة عجوز مرابية.
واذا به يشكل عوالم غريبة وشخصيات تحمل لوعتها وصمتها وثورتها وكتمانها البالغ حـد الانفجار، وصور الأقبية والجوع والجريمة والكشف لها فقرأنا (الجريمة والعقاب) رائعة (دستويفسكي). والسؤال الان: أكانت تلك القصاصة الدافع الكبير الذي صور العبقري فيها روسيا وما مرً بها من أنهيار وتآكل وضياع؟ ان الروعة ليس في الحكاية – قشرة – النص، وبالمصطلح النقدي المتن الحكائي، ولكن في بنائها الداخلي العميق، وتصويره لحالات النفس البشرية وأوجاعها، فأي رهافة حس يمتلكها الروائي، وهو يكشف ويعري النفس البشرية في تقلباتها واصطراعها والفلتات التي تُحدث انقلابا في مصائر البطل ومن يحيطه وكشف النقاب عن حالات الشعور المطمور بدواخل الشخصيات، والأفكار التي تعلنها، أو تلك التي تكون في طريقها للاعلان. كيف فكر الروائي واستطاع ان يعيد الحياة للمجتمع المريض؟
والأدهى كيف عبر عن حالات ووضعيات الأبطال، في بوحهم وتقطيرهم ومطاردتهم للأفكار وما ينتابهم من هواجس؟ ولنفكر ب(كافكا) في قصته (المسخ) والسؤال : كيف خطرت بباله صورة البطل ؟ اليس غريبا ان ينهض المرء من سريره واذا به يجد نفسه صرصارا؟ أتحول الخوف الى فوبيا، واستطاع من خلال ارتعابه بمواجهة الآخرين ان يشعر بذات الطحن الذي ظهرت عليه شخصية المسخ. او لننظر الى (شكسبير) وقد قرأ ما كتبه المؤرخ الروماني (بترارك) وهو يطلع على سيرة الابطال الرومان وأحالهم الى ابطال، استلهم من بطون التأريخ الى ابطال شواهق للانسانية لاينسون، بل عبروا الزمان لازمنة أخرى. كيف صاغ شكسبير هذا العقل الشعري والدرامي من الطراز الرفيع، عالم الابطال؟ وقد طغت الهواجس في نفوسهم كالأسفين، فخلق منهم ثقوب في الحياة، وأمثلة للنفس الأنسانية وهي تتكسر وتتحطم وتجمع شتاتها من جديد، فتعلن عن الندب السوداء التي طرزت عوالم الابطال وحركتهم العاصفة. ان المبدع، يعيد انشاء الواقع الى واقع آخر، فني مغري ومثير، يبتعد عن الحياة ليكشف عن حياة أخرى لا ترى لكنه يراها بوضوح تفصيلي للغاية، ان هذا الأمر لوحده يجعل منه مفكرا عملاقا.
اذ يعيد بناء الحياة والعوالم المختلفة، فيعيد نسغ الحياة من جديد، لانه يمنح من عقله ومخيلته الكثير. وماذا لو حاولنا الدخول بعالم(السياب) الشعري وهو يحول (بويب) الساقية الصغيرة الى نهر عظيم بقصائده، بم كان يفكر السياب وهو ينظر متأملاً (بويب)؟ مما لاريب فيه، ان الشاعر كان يتميز برؤية ومنظور متفرد، بحيث ارتقى بالساقية الصغيرة في قريته (جيكور) ببيوتها الطينية الكئيبة، رؤيا للقرية وساقيتها فجعلهما آياتان من الجمال والطاقة الفذة، انها خاصية الشاعر العملاق الذي يبارك مايراه ويرتقي به ويخصه، فيكون معناه مختلفا عما عرف في الحياة.
تلك الرؤية المختلفة عما سواه من البشر، وهذا ماميز المبدع الحق عن الآخرين.
فما من أحد خطر بباله ان(بويب) يمجد أسوة بسيرة العظماء. ترى بم كان السياب يفكر؟ وكيف خطرت بباله الفكرة، في ان يحمل بويب عذابات العراق ووجعه، والمسألة ذاتها وان كانت بأسلوب ومنهج آخر عندما قرأ (شكسبير) سيرة الأبطال العظماء، التي تحولت مرتعا لشاعر يخلدها، وكانه أراد ان يضفي المعنى لـ (بويب) ولقريته (جيكور) وهو يصور العذاب الانساني للعراق وللحياة، فتنتابه حمى الكتابة دون ان يكون قد أستقر،فأيُ صورة في طور الانجاز كانت تتزاحم في عقل الشاعر ليخلد الساقية الصغيرة أو القرية المتعبة، وكم من الوقت فكروقلب الأفكار والكلمات لينحت بالكلمات بويب النهر العظيم بعينيه؟ لانقول كم تطلب الامر كتابة القصيدة لحظة الولادة، بوصفها اللحظة المضغوطة تماما والمعتصرة للحظات لايعرف عددها.
ان انثيال الصور بدبقها وتلاحمها وتلاصقها وتجاذبها، انما يخلق شاعرية الصورة الكلية الشاملة للساقية والقرية وكذا الأمر بالقصائد الوجدانية التي تعزف على وتر الوجع والموت. يلاحظ ان المبدعين مفكرون وان لم تطلق هذه الصفة عليهم، بصمت وهم يتناولوا موضوع قد التفتوا أليه، وانشغلوا به، لكن طريقة التفكير بالموضوع، ودرجة التعبير وثقله وقوته في صيغة معان جديدة تكتسب أحقيه الابداع كاملة الحقوق.
الابداع ليس ان نقول ان فلانا مبدعا، انما علينا التعرف على الكيفية التي كان فيها مبدعا، فكم من روائي وقاص وشاعر وفنان، ولدوا طموحين ان يؤرخوا، الا ان عجلة الحياة لم تبق منهم ألا من صمد منجزه أمام الزمن وتغلب فنيا وجماليا، بما يملك من قوة وتأثير عما يحيطه من أعمال فنية وأدبية وشعرية.
وعليه فان اللحظة الأشراقية، لحظة القبض على الجميل واستدراجه وتجليه بالأعمال الفنية والأدبية والشعرية، هي اللحظة الأخيرة لولادة الكائن الجميل من عوالم المخيلة وسريتها الدائمة، لعالم الأظهار والكشف والتجاور مع المنجزات الفنية والجمالية الأخرى.
ان لحظة الولادة، تعني ايقاف لعذابات وطنين الابداع ودبيبه الدائم في عقل ونفس وروح المبدع، وكأن ولادة المنجز، أنما هي الفاصل بين عالمين: الأول عالم غامض يتسم بالمجهولية والسرية التامة، أما العالم الثاني: فهو عالم الكشف عن جمال المنجز وأحيانا عن عورات الابداع وتيبسها الفني والجمالي، فيكون الكشف عن عمقه المتفرد أو تجلي الواقع واستنساخه، فضلا عن صدقه أو زيفه وبذلك يكون الابداع محطات، قسم نعرفه أما الآخر فنجهله بالمرة.
