الدراما والبحث في ذات البطل
فما ذات البطل في الدراما؟ أهي ذات لشخص ما، أم لمجتمع، أم لحياة؟ وكيف يتم التعبير عنها وطبيعة حركتها وهي في طور الانجاز؟وان ذات البطل في الدراما تبحث عن انجازيتها – وان كانت ذات البطل ,تمثل كيانا مكتملا- لكن، ما أن تدخل شخصية البطل صلب الحدث، حتى يفقد المنجز في كيانها الذاتي انجازيته وأكتماله، وتكون شخصية البطل مجندلة بين المنجز وغير المنجز وبكلمة أخرى، تكون معلقة بين السماء والارض، ويكون دافعها وحثها الاساس، في كيفية بلوغ انجازيتها وكانها تبحث في طيات ذاتها، في ما يعرف عنها ويشكل صورة لمعرفتنا بها وما بقي خفيا لايظهر الا لحظة الاصطدام والاصطراع بين الأبطال.
وما ان يبلغ الحدث اعلى نقطة فيه ، حتى يتكشف الخبيء المستور، وتتجلى صور أخرى للبطل الباحث عن ذاته، التائه في الحياة، المقاوم للظروف المحيطة، الصارخ العنيد بوجه من يقف ضده، محاولا أن يحده ويمنعه، لأن البطل يستميت من أجل ايجاد ذاته.
ان ذات البطل تتسع في مداها وتكبر في تضاريسها.
وتتجمع في زواياها ومخابئها مئات الصور والأحاسيس وحزم من المشاعر في لحظات التبلور والتكون وصولا الى لحظة الاتقاد والاشعاع الذاتي في التأثير على الابطال الآخرين، الذات أس الفاعلية في الدراما الناضجة المرموقة، ومحور التوازن الفاعل في تشكيلها النفسي، وتطورها الفعلي، وحركيتها الفذة، الذات تتسع رقعتها، لتمهد القبول بالمغيب من المشاعر والافكار، الذات تجري منسكبة، كالماء في ارض متشققة ليفوح عطرها الذي يصورعذابها وسخطها وهلعها وتوقها المستمر للخلاص من الذات المثلومة والمهزومة والمقهورة والضائعة، في وجود يسحق كينونتها وعالم لايستجيب لوضعها.
ان الذات تتحول الى بحر متلاطم ما ان يهدأ لحظة حتى تعصف الريح من جديد، وفي النصوص الاجنبية العالمية الكثيرمنها، من يجعل ذات البطل محور الحدث، وبهذا الصدد نتناول البطل عطيل في مسرحية (عطيل) لمؤلفها شكسبير، اذ تعد شخصية منجزة حتى يبدأ ياجو ببث أفكاره في نفس وعقل عطيل، بمعنى النفاذ الى ذات عطيل والإيغال بالبطش بها، والذي يحدث أن عطيل يفقد تدريجيا مفاهيمه وأفكاره وايمانه بزوجته دزدمونه.
وكأنه يفقد بهجة الحياة وايمانه بها، وكأن الالوان المبهرة المتنوعة تتحول داخل نفسه الى الوان قاتمه دكنتها الافكار المصطبغة بالسواد والحزن، فيبدأ رحلة البحث لتحقيق ذاته التي يحس ويحسسنا معه بأنها ذات مثلومة، مكسورة، طوتها المشاعر المغايرة، ففقدت بريقا – املا – الذي صار بعيدا تجره الايام الحزينة، ومن أجل الخلاص من خيمة الحزن وعودة الآمال الى سواقي النفس، فان الامر لايتحقق من غير القصاص من دزدمونة زوجته وحبيبته، فيهم بقتلها وهو يتألم، لكنه يستمر بخنقها دون توقف، فكيانه كله يتعلق بهذه اللحظة، وقتلها بمثابة اعلان الخروج من عدم الاكتمال الى الأكتمال، وبذلك يصر عطيل ويضغط بكل ما أوتي من قوة لزهق روحها.
والسؤال: أفهمت دزدمونة حقيقة مايجري في ذاته التي لاتنطق، لكنها تنجز فعلا تدميريا، باهظا؟ وسؤال آخر: اتقبلت دزدمونة الامر وهي صاغرة الى حكم عطيل؟ ماتت دزدمونة مقتولة بيديه خنقا، وكأنها استجابت لروحه المتشظية المعذبة ، كأنها تهم بيديه ليعود عطيل الذي أغرمت به.
إن لحظة موتها، هي لحظة جليلة، تفوق أي لحظة ممائلة في الحياة، فعطيل قد حقق ذاته من جديد، تلك الذات التي أهتزت وانسكبت ولايعرف لها شكلا، وأضحت لاتعرف لنفسها مكانا، لكن المفاجأة تأتي من كونه يكتشف غدر ياجو وكذبه بعد ان الصق تهمة الخيانة بدزدمونة، فأوقع ياجو بقائده عطيل، انتقاما منه لانه أغفله واستقدم آخر بدلا عنه في واحد من المناصب، فيعود عطيل ثانية للبحث مجددا عن انجازيته بالقصاص من ياجو ومعاقبته بقتله.
إن ازاحة ياجو صارت مطلبا ذاتيا لعطيل الذي أعيد ثلم شخصه فطمست معالمه من جديد، هنا يهتاج عطيل باحثا عن ياجو، باحثا عن ذاته في حقيقة الأمر، عن أنجازيته التي صادرها ياجو.
إن سعي عطيل يزداد للقصاص من ياجو في لحظة يتقدم فيها الحدث، والمتغيرات تعصف بقوة وتجر معها الابطال الآخرين وتفكك تكوينهم النفسي ونسيجهم الذاتي وأحالتهم الى ركام يبحث عن وجوده وكينونته، فالحدث قلب الشخصيات وطحنها طحنا، وهي في الوقت ذاته مهووسة بالانجازية التي أفتقدتها وافتقرت اليها، واذا كان ياجو هو المحرك للبطل والمهيمن في توجيه الحدث فان الابطال الآخرين يتحركون بكيفيات مختلفة، ليعبروا عن ذواتهم الضائعة في ظل حركة الحدث العاصفة، فايميليا تكشف النقاب عن المستور، وما أخفاه ياجو عن سيده عطيل.
إن ذلك يعد تعبيرا قويا عن حركة ذات ايميليا التي اهتزت قيمها ومفاهيمها لقتل دزدمونة التي أحبتها وكانت شغوفة بها وتعلم حقيقة كونها بريئة مما اتهمت به، لهذا فهي تبوح بالحقيقة التي تجعل من عطيل يطارد ياجو ويقتص منه.
يلاحظ ، ان البحث عن الذات، اتخذ سياقات مختلفة: ياجو اراد تدمير الآخرين وحرقهم بخطة جهنمية توقع بعطيل ومن وثق بهم، انه نوع من الذات الباحثة عن تدمير وايلام وزيادة اوجاع الآخرين الكارهة لهم من الاعماق، ولا يتوانى عن ابتكار الطرائق ويجرجر الظروف المعطاة والمحيطة بهم ، ليتيح لنفسه الفرص الكاملة من اجل السيطرة وفرض ارادته / ذاته على الابطال المحيطين به، ليصبح القائد بغير معية، لكنه ينفذ بالاخرين مايراه مناسبا لهم، بالتالي فهو يحرك الراكد من الاحداث ويعيد للحياة قوتها واصطدامها الدامي ، ان ذلك يعد من منظور ياجو تجليا للذات في صورتها الحقة، ان تكون له كلمته بالأبطال، ومصيرهم الذي رسمه بعقله، من أجل ان يفجر العالم الذي يحيون به ما دام هو من يشعر بالظلم والاجحاف، ذاته تتألق وتتسع وتهيمن على عالم يتسيده الخراب، يعمل بجد ونشاط ليزداد العالم تدميرا وتحطيما، وبذلك تتجلى ذاته في ربوع الموت والقتل والانهيار، مما يثلج صدره المليء بالكراهية والحقد. انها الصورة المثالية لعقل ياجو وان كانت بشعة.
اما شخصية ايميليا هي الآخرى تبحث عن ذاتها وان كانت تشعر بالضيم وجور زوجها ياجو، فهي تحاول ان تمسك العصا من الوسط، بان تكسب زوجها من جانب وحياتها مع الآخرين من جانب آخر، لهذا يسهل قيادها أحيانا، لكنها عندما تثور وتغضب وتحس ان نصل الخيانة بلغ نهايته، سرعان ماتثوب الى رشدها وتقطع الخيوط الرابطة بزوجها من اجل احقاق الحق ولو بعد حين، لهذا هي الاخرى باحثة عن ذاتها، وماصمتها عن افعال زوجها، الا لكونها لم تدرك بشاعة وقذارة ما يقوم به فعلا، ولم تتصور ابدا ان يكون زوجها بهذه القتامة من التفكير، ودرجة السوء و البغض التي يحملها في نفسه المتكتمة.
اما دزدمونة، الشخصية الصاغرة الهائمة الرقيقة والمنبهرة بزوجها، الراضية بكل شيء من اجله، وان كان الموت ينتظرها، لهذا فهي تتقبل فكرة ان يقتلها عطيل، ما دامت ستموت بين يديه، لانها تحبه اكثر مما يعتقد عطيل بانه يحبها وتلك هي مفارقة، ان يكون من نحبه فعلا هو من يريد قتلنا. الا ان عطيل لم يدرك مديات هيام وشغف دزدمونة به، لقد أعميت بصيرته عن هذه الحقيقة، التي تحملها دزدمونة في أعماقها لعمى ذاته، من رؤية ما يقع خارجها. لغرور القائد الذي أركع اعداءه، أو لطيبة جبل عليها، أو لأنه يعشق للمرة الأولى، فلا يحسن التصرف، أو قد يكون الأمر للأسباب آنفة الذكر مجتمعة.
ماتت دزدمونة الولهى، مقتوله سعيدة راضية بحكم عطيل دون سؤال أواستفسار، بل تقبلت الموت صاغرة ممتثلة لحبيبها ، طاعة عمياء لمن عشقته واخلصت له، وتركت اباها من اجله، فالعاشق بمنطقها لايسأل من يحب عن السبب، بل يطيع ويمتثل لا أكثر، ويقدم حياته صاغرا لمن يحب.