بيرم التونسي شاعر الغربة والثورة والحب
تميزت أعماله بالثورة والتمرد والحب والغربة والمعاناة والمواجهة الدائمة مع القوى الغاشمة من مستعمرين وعملاء محليين يمثل مع نخبة كبيرة من كتاب مصر الأحرار الصوت الوطني في مدار المواجهة التي شهدها القرن الماضي ، وضع يده على أعظم كنوز تراث الشعب العربي – الفلكلور والموروث الشعبي – استخدمه بذكاء ووعي كبير وبنى من خلال الحوادث والقصص الموجودة فيه الكثير من الأعمال الأدبية والفنية الناجحة والتي تلقفتها الجماهير العربية وتفاعلت معها ، وكان القسم الأعظم منها قد اتخذ طريق المواجهة مع أعداء الأمة وقوى الاستعمار العالمي وركائز العدوان في المنطقة :
أنا المصري كريم العُنصرين
بنيت المجد بين الأهرمين
جدودي أنشئوا العلم العجيب ومجرى النيل في الوادي الخصيب …….
الطفولة والشباب
حياة بيرم التونسي منذ ولادته سلسلة لا تنقطع من الأحداث المهمة والتي ساهمت تفاصيلها في تكوين شخصية ذلك الشاعر المبدع الذي كان يمثل ظاهرة فريدة ، جاء والده من ” تونس ” إلى مصر هارباً من تعسف وبطش الاستعمار الفرنسي البغيض.
سكن في مدينة الإسكندرية ، كان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر ، في تلك الفترة رزق بابنه البكر ” محمود بيرم التونسي ” كان ذلك الطفل أمل أبيه فهو يتمثل فيه أن يكون عالماً دارساً للعلوم الدينية من فقه وتشريع وتاريخ وتفسير وحديث نبوي ، أراد له أن يكون من أبرز رجال التصوف في عصره حتى يكون موضع فخر أبيه ، لكن الرياح لا تجري كما تشتهي السفن ، وهكذا كان ، لقد أختار محموداً لنفسه حرفة لا صلة لها بالعلم ولا علاقة لها بالأدب ..
توت عنخ آمون
في مصر كنت الملك لك جيش ولك حاميه
ودوله غير دولتك ما تعمل الموميه
و امه غير امتك ما تزرع الباميه
ولما خشوا عليك المقبره يلاقوك
نايم مفتح .. ولكن في بلد عـميه ……..!
بدأ ” محمود بيرم التونسي ” حياته يجلس في حانوت أبيه التاجر يستمع إلى نقاش العلماء الذين يجتمعون كل يوم لديه وينصت باهتمام إلى أحاديثهم التي كانت تتمحور حول الدين والأخلاق والتوحيد وآداب المناظرة وكذلك في النحو والمنطق وأمور أخرى تتعلق بالإبداع الأدبي .
كان هو يرى نفسه منساقاً إلى نوع واحد من هذه الأنواع جميعاً ويستمع برغبة كبيرة إلى حديث التصوف والمتصوفين ، إلا أن بيرم التونسي يتخذ قراراً آخر يغير مجرى حياته وذلك عندما يلتحق بحانوت بقال آخر ليعمل فيه ويجد بذلك وقتاً كافياً يقضيه في تثقيف نفسه وتهذيب أفكاره وكذلك الإطلاع على ما يهواه ويرضاه فيقرأ أمهات الكتب والمؤلفات النفيسة حتى يجد نفسه منساقاً إلى البحث في آداب العرب وشعرهم ويستهويه بشكل كبير ” الشعر الأندلسي والموشحات ” ثم يعكف على دراسة الزجل الشعبي ، ويتوقف بعد ذلك طويلاً أمام قضية دخول مفردات اللغات الأخرى على اللغة العربية ويشغله أكثر ظهور تلك اللهجات المتعددة والتي تكرس مفهوم الإقليمية في الأمة الواحدة .
جرايب جرعت باشا لابسين النياشين
تلقاهم في الجزيره قاعدين ومفرفشين
للبيه منهم تكريعه يسمعها اللي ف شبين
صدق من قال بلادنا دي بلاد المنفوخين …..!
الحرية والأدب
بعد وفاة والده وجد نفسه حراً فأنصرف بهمة كبيرة لتنفيذ أفكاره وطموحاته وذلك في الإطلاع على الأدب بشكل مكثف ، وفي العام 1919 قامت في مصر ثورة ” عرابي ” الوطنية فدفعته الحماسة للمساهمة مع الجماهير المصرية الثائرة ، وكانت مساهمة بيرم التونسي تتمثل بما يلقيه على أسماع الجماهير من كلمات وأشعار بطريقة الزجل الشعبي ، كان التونسي منذ تلك الأحداث قد بدأ يشق طريقه كأديب ثائر وطني قومي .
قد توصل إلى حقيقة جوهرية تتلخص بأن المواجهة المفتوحة مع قوى الاستعمار والرجعية وتيارات التردي الأخرى ، حيث تتطلب تلك المواجهة استخدام كافة الأساليب الأدبية لغرض إيصال أفكار الثورة ونشر أهدافها في أوساط الجماهير ، كما تحقق له أن يكتشف حقيقة مهمة في مجال استخدام اللغة الفصحى في كتابة الشعر ، حيث نسبة الأمية بين أوساط الشعب المصري والعربي عموماً في ذلك الوقت كبيرة جداً ، لذلك وجد أن الشعر الفصيح لا يسعفه في إيصال أفكاره للجماهير في كل مكان ، وهكذا بادر التونسي للتعبير عما تجيش به نفسه وعواطفه مستخدماً الزجل الشعبي للتعبير عما يراه من عيوب اجتماعية وسياسية وسيطرة استعمارية واحتلال.
ذلك الفن الذي بلغ فيه أرقى المستويات واستخدمه في أصعب معالجات الظواهر في تلك الفترة ، عندما نظم قصيدة رائعة يهاجم فيها المجلس البلدي ، حاز على أثر ذلك شهرة واسعة ، حيث عبرّ في تلك القصيدة من خلال استخدام أسلوب مليء بالتهكم يصور فيه طرق النصب والاحتيال التي تفرض السلطة القائمة آنذاك من خلالها الضرائب على الشعب المغلوب على أمره ، جاء في تلك القصيدة :
المجلس البلدي
قد أوقعَ القلبَ في الأشجانِ والكَمَدِ
هوى حبيبٍ يُسَمّى المجلس البلدي
ما شَرَّدَ النومَ عن جفني القريحِ سوى
طيف الخيالِ خيال المجلسِ البلدي
إذا الرغيفُ أتى ، فالنصف ُ آكُلُهُ
والنصفُ أتركُه للمجلس البلدي
وإنْ جلستُ فجَيْبِـي لستُ أتركُهُ
خوفَ اللصوصِ وخوفَ المجلسِ البلدي
وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا
في الصيفِ إلاَّ كسوتُ المجلسَ البلدي
كَــأنَّ أٌمّي بَلَّ اللهُ تُربتها
أوصَتْ فقالت : أخوك المجلس البلدي
وبعد ذيوع هذه القصيدة أشتهر ” بيرم التونسي ” بشكل كبير وتبعها بقصائد وطنية أخرى وعرف بأنه زجال ولم يتحدث الناس عنه بأنه أديب جاد في أدبه يتبع منهج ونظرية في نتاجه الأدبي ، كان زجالاً شعبياً يعزف على قيثارة الأدب باللغة العامية واستفاد كثيراً من تجارب الشعراء الذين سبقوه أمثال ” عثمان جلال وتوفيق صاحب وعبد الله النديم ” وغيرهم الكثير من أدباء الزجل في مصر ، اتسمت كتاباته على اختلافها بالحض على الرقي وترك الممنوع والدعوة إلى تعليم المرأة ، وجمع الكلمة الوطنية كذلك العمل وفق مفهوم التعاون والتوحد لطرد الاستعمار الأجنبي ، وبسبب تأييده لثورة – أحمد عرابي – وقيامه بنشر قصيدة يتعرض فيها للملك فؤاد – ملك مصر آنذاك – الذي أغضبه مضمون القصيدة فاستشاط غيضاً وطلب من السفارة الفرنسية في مصر ترحيل بيرم التونسي باعتباره أجنبياً ومن المشاغبين ضد النظام ..
يا باريز يام بلاد برّه
يا مرّبيه لامارتين
بعتتْ لك أم الدنيا
شاعر في الشعر متين
يعمل أشعار لصعايده
وبنات وفلاحين
وتلامذه وأزهريه
وخوجات ومفتشين
إياك ما يموتش عندك
في بيوت المساكين
المنفى الأوّل
كانت فرنسا هي المنفى الأول للتونسي أقام فيها نحو ثلاثة عشرة سنة منع خلالها من الاتصال بعائلته أو أصدقائه واضطرته الظروف الصعبة هناك للعمل بشتى المهن الشاقة كعامل في حظائر البناء ومصانع الحديد والصلب وعاملاً في المقاهي والمطاعم والملاهي ، حتى عاد إلى تونس في عام 1932 ، عاش فترة خمس سنوات اتسمت بالجهد المتواصل في مجال العمل الصحفي وممارسة النضال الوطني ودعوة أبناء تونس للثورة على وجود الاحتلال الفرنسي وخلال تلك الفترة ترأس تحرير جريدة الزمان والشباب ، وكذلك شارك في الكتابة بعدد من الصحف الأخرى التي كانت تصدر في تونس .
ولعل أقوى المواجهات بين ” بيرم التونسي ” وقوى الاحتلال تمثلت في المقالات التي كان ينشرها في جريدة الشباب والتي كان يشن فيها حملات جريئة ضد الوجود الفرنسي الاستعماري في تونس والجزائر ن وكذلك ضد الاستعمار الإيطالي وما يعتمد من أساليب قمع وحشية ضد الثوار والأحرار العرب في ليبيا وبسبب تلك المقالات أصدرت السلطة الاستعمارية أمراً يقضي بتعطيل صدور الجريدة وإبعاد صاحبها عن بلاده لأنه مشاغب ..!
الأوّله مصر ، قالوا تونسي ونفوني
والتانيه تونس، وفيها الأهل جحدوني
والتالته باريس، وفيها الكل نكروني
الأوله مصر، قالت تونسي ونفوني.. جزات الخير
والتانيه تونس، وفيها الأهل جحدوني.. وحتى الغير
والتالته باريس، وفيها الكل نكروني.. وأنا موليير ……….
المنفى الثاني
بيروت .. الشام ، كانتا المنفى الجديد لبيرم التونسي حيث أقام فيهما مدة من الزمن وطد فيها علاقاته مع الأدباء وساهم مع الثوار في رفع حماسة الجماهير ضد الاستعمار الفرنسي والدعوة بقوة إلى طرد المستعمرين من أرض العرب ، وبذلك دخل مواجهة جديدة مع ذلك الخصم الكريه واتخذت السلطات الاستعمارية قراراً ينص على نفي محمود بيرم التونسي من أرض لبنان والشام إلى بلاد السنغال وهي التي تقع خارج حدود الوطن العربي ، الأمر الذي يجعل أشعاره تفقد فاعليتها وكذلك مقالاته تصبح لا قيمة لها ، اقتيد بيرم التونسي موثوق اليدين إلى متن الباخرة بملابس بالية وبدأت رحلة المنفى البعيد …
من قصائد بيرم التونسي
نحو مدار الحرية
الجماهير
من المستحيل أنت تخدع أي طفل صغير
و تلف عقله و تعطيه القليل بكتير
لكن بأهون طريقه تخدع الجماهير
لو كنت أغبى غبي تجري وراك و تسير
رسم ” محمود بيرم التونسي ” سيناريو الهروب من قبضة السلطة الاستعمارية رافضاً قرار النفي ، تحقق له ذلك عندما توقفت الباخرة التي كان على ظهرها في ميناء بور سعيد ، هرب منها واتجه إلى مصر وظل متوارياً عن الأنظار يكتب بعيداً عن أعين الرقباء أنواعاً مختلفة من الأدب منها الزجل والشعر والنثر الفني البديع والمقامات التي كتبها على نمط مقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري ومحاكاة الشعراء والأدباء حتى كان يحرر صحيفة الثبات لوحده.
فهو يكتب عن العمال والأدباء والشعراء واللصوص والنصابين والخونة والمارقين والمتاجرين بالمبادئ والمنافقين ، لقد أحب بيرم التونسي مصر حباً كبيراً ظل متقداً في عقله وكيانه يستمد جذوته من ثورة الفلاحين وكل جماهير الشعب التي قادها ” عرابي ” عام 1919 وقد عبر في منفاه عن ذلك الحب في قصيدته المشهورة :
عطشان يا صبايا
عطشان يا مصريين
عطشان والنيل في بلادكم
متعكر مليان طين
ولا نهر الرين يرويني
ولا مية نهر السين
ودموع العين ما بتروي
نار القلب الحزين …..