النفط والدماء: الإستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا “السودان نموذجا”
ونظرًا لأن إفريقيا تحتل موقعًا مهمًّا، إن لم يكن خاصًّا، في الإستراتيجية التي رسمتها الإدارة الأمريكية للتحكم في عالم المستقبل، لما تملكه القارة من ثروات طبيعية ومواد أولية، لاسيما البترول، الذي أصبح العنصر الحيوي المحرك ليس للاقتصاد الأمريكي.
ومن الجدير بالذكر أن الكتاب يهدف إلى رصد وتحليل مظاهر التطور والتغيير الذي طرأ على السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا عامة والسودان خاصة بعد ظهور البترول ، وإبراز العوامل التي حددت هذا التغيير، سواء تلك الناجمة من البيئة الداخلية أو الإقليمية أو الخارجية، والتعرف على أهمية عنصر البترول في عملية صنع وإدارة السياسة الخارجية الأمريكية، ورصد التغييرات التي طرأت عليها تجاه إفريقيا، وبخاصة في ظل عدم وجود الكثير من الدراسات العلمية التي تناولت موضوع الدراسة بشكل وافٍ، والتي تأخذ في اعتبارها الأبعاد المختلفة لتلك السياسة، والتي تحدد الأهمية النسبية للعوامل المؤثرة فيها، والتغيرات التي تطرأ على هذه السياسة من وقت لآخر، فضلاً عن محاولة فهم موقع إفريقيا النفطي في العالم وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في ظل النفوذ الصيني المتنامي عليه، وآليات الهيمنة الأمريكية على منابع النفط الإفريقي، والأهداف والمصالح الإستراتيجية الأمريكية في القارة.
ويقع الكتاب في خمس فصول بواقع 281 صفحة من القطع المتوسط ،تناول الفصل الاول تعريف وأدوات وأهداف السياسة الخارجية بصفة عامة، وتأثير الموارد وخاصة البترول في توجهات السياسة الخارجية للدول الكبرى.
فيماتناول الفصل الثاني، بدراسة أهداف وأدوات السياسة الخارجية الأمريكية، وتأثير البترول في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية عامة وأفريقيا خاصة. حيث تقوم السياسة النفطية الأمريكية على إشباع الاحتياجات النفطية الأمريكية، وضمان تأمين مصادر الطاقة باستمرار للاستجابة لأي تغيرات داخلية أو خارجية طارئة، وتحاول هذه السياسة النفطية التوفيق بين هدفين متعارضين هما: تلبية الاحتياجات النفطية الداخلية، والحفاظ على المخزون النفطي الاستراتيجي من ناحية، وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية في إشباع هذه الاحتياجات المحلية من ناحية أخرى، وهو ما وضح جلياً في استراتيجية الطاقة القومية National Energy Policy التي أصدرتها وزارة الطاقة الأمريكية في مايو2001 .
أما الفصل الثالث، فقام بدراسة محددات السياسة الأمريكية، والتي تتثمل في المحددات الداخلية بتحليل دور جماعات المصالح النفطية وتأثيرها في السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا والسودان، وهو ما أوضح الدور الذي مارسته هذه الجماعات في التأثير في السياسة الخارجية الأمريكية، حيث أصبحت الإدارة الأمريكية أكثر اهتماماً بالمشكلة السودانية.
فضلا عن المحددات الإقليمية، النابعة من البيئة الإقليمية، والمتمثلة في الصراعات الداخلية والإقليمية حول الثروات البترولية في القارة، والتي تؤثر في طبيعة التفاعلات الإقليمية فيما بين القوى الإقليمية المختلفة، وبينها وبين القوى الدولية.الى جانب المحددات الدولية، فقد تمت دراسة المحددات النابعة من البيئة الخارجية للنظام والمتمثلة في تداعيات أحداث 11 سبتمبر 2001، ودراسة التطورات التي أدت لبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية وحيدة على قمة النظام الدولي، وانعكاس هذه التطورات التي شهدها النظام الدولي على رؤية الولايات المتحدة لنفسها ولعلاقتها بالعالم ودورها فيه. كما انعكست هذه الأحداث على سياسة الطاقة القومية للولايات المتحدة وأمن الطاقة العالمي، إذ لم يقتصر تأمين الطاقة في المفهوم الأمريكي على الأبعاد الاقتصادية فقط، بل يمتد إلى المنظور الاستراتيجي العالمي، فالنفط ليس سلعة بالغة الأهمية والربحية للاقتصاد الأمريكي فقط، بل هو سلعة استراتيجية في الوقت الراهن يتوقف على السيطرة عليها والتحكم فيها مستقبل القطب الأوحد في العالم حالياً، فبهذه السيطرة وبهذا التحكم لا تنفرد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم فقط، بل تحول دون بزوغ أية أقطاب أخرى. وقد جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 لتحفز الإدارة الأمريكية على كشف مضامين استراتيجيتها في إطار تأكيد زعامتها وهيمنتها. وأعلت من شأن أزمة الطاقة بارتفاع الأسعار. ودعوات التخلص من التبعية النفطية الأجنبية والتي وصلت إلى حوالي 60% من احتياجاتها النفطية. واختلطت الأوراق الخاصة بمقاومة الإرهاب بموضوعات أخرى تصاعدت على الساحة الأمريكية، ورأى فريق من الخبراء أهمية التوقيت من أجل تحقيقها في إطار إثبات وتأكيد الهيمنة الأمريكية، وتعزيز سيطرتها وزعامتها العالمية، وبرزت المسألة العراقية وضرورة حسمها لتعيد حسابات النفط الاستراتيجية الأمريكية، والحرص الأمريكي الجاد على السيطرة على الثروات النفطية هناك.
أما الفصل الرابع، فقام بتناول مؤسسة الرئاسة، حيث تمت دراسة تأثير البترول في تصور الرئيس والمسئولين الأمريكيين تجاه بعض القضايا في أفريقيا، واتضح أن هناك أتفاقاً بين صناع السياسة في الولايات المتحدة على أهمية وجود الثروات التعدينية والمواد الخام بأنواعها المختلفة بها، وتكاد تكون هذه المصالح ثابتة، يضاف إليها مصالح متغيرة من إدارة لأخرى، ومع التغيير في طبيعة النظام السياسي في الولايات المتحدة تتغير التوجهات الأمريكية تجاه أفريقيا.
وفي هذا الإطار، ركزت إدارة الرئيس بوش على المصالح القومية الأمريكية على حساب المصالح التي تهم العالم، لاسيما فيما يتعلق بأمن الطاقة، حيث جاءت ومعها استراتيجية جديدة للطاقة تبلورت في تقرير “استراتيجية الطاقة الوطنية”، والتي تهدف إلى تنويع مصادر الطاقة وتنوع مصادر واردات النفط، فضلاً عن التوسع في المخزون الاستراتيجي للنفط، وفي ظل ذلك تحركت الإدارة لتطبيق استراتيجياتها في أفريقيا والتي من أبرزها التحركات تجاه النفط الأفريقي بتكثيف التواجد العسكري في المناطق النفطية، والعمل على منع الصراعات في مناطق إنتاج النفط، والتوصل إلى حل سياسي للصراعات القائمة فعلاً. أما في فترة إدارة الرئيس أوباما، فقد تم الإعلان عن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه السودان، والتي تقوم على تطبيق سياسة “العصا والجزرة” في آن واحد.
واختتم الكتاب بالفصل الخامس،الذي تناول بالتحليل تأثير البترول في مضمون السياسة الأمريكية، فبالنسبة للأدوات الدبلوماسية، كان من الواضح قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتدعيم العلاقات الدبلوماسية مع الدول النفطية الأفريقية، وذلك من أجل الحفاظ على مصالحها النفطية، وتعزيز تواجدها العسكري، وإقامة علاقات وثيقة مع حكوماتها ومؤسساتها العسكرية.
وقد كان لا بد أن يكون للسودان حظ من هذا الاهتمام الأمريكي الذي يتضح في التدخل السافر، وإثارة النزاع داخل المنطقة كوسيلة للسيطرة والتحكم المستقبلي في البترول، وخصوصًا أن التنافس على أشده على المصالح البترولية في غرب إفريقيا بين الهند والصين، كما أن الفترة التي شهدت اتفاق ماشاكوس عام 2002م تمثل حالة تطبيقية للتدخل الأمريكي في السودان لحل مشكلة الجنوب، بهدف السيطرة على النفط السوداني في هذه المنطقة، وتفاقم أزمة دارفور في السودان ودور الولايات المتحدة فيها، وخصوصًا أن الاهتمام الأمريكي بها ليس للأوضاع الإنسانية، وإنما ينصب على المواد الخام، واتخاذ هذه الأوضاع كذرائع واهية تمهّد لها السبيل للتدخل والسيطرة على البترول في هذه المنطقة، وصولاً إلى انفصال جنوب السودان باعتباره محصلة من محصلات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السودان والذي لا شك فيه سيتحول إلى زلزال جيو سياسي واسع النطاق في السودان الجنوبي نفسه والسودان الأم؛ حيث إن دولة السودان الجنوبي الجديدة ستكون هي الأحدث التي انفصلت عن أكبر وأول دولة عربية إفريقية هي السودان الكبير مساحة وحدودًا وبترولاً وموارد، بموجب استفتاء شعبي أُجري في التاسع من يناير 2011.
أما فيما يتعلق بالأدوات الاقتصادية، فقد تمت دراسة كيفية استخدام الولايات المتحدة لأدواتها الاقتصادية، والتي أخذت عدة مظاهر؛
أولها، إقامة الولايات المتحدة العديد من العلاقات الاقتصادية مع الدول الأفريقية والسودان، والمتمثلة في المساعدات الخارجية لهذه الدول سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وأيضا تطوير حجم التجارة والاستثمارات مع هذه الدول.
وثانيها، استخدام نظام فرض العقوبات الاقتصادية المباشرة كإحدى أدوات سياستها الخارجية على السودان، وهو ما أوضح كيفية قيام الولايات المتحدة بالضغط على المنظمات الدولية وبخاصة مجلس الأمن لفرض مثل هذه العقوبات.
وبالنسبة للأدوات العسكرية، فقد تناول هذا المبحث بالدراسة كيفية تأثير البترول في استخدام الولايات المتحدة لأدواتها العسكرية وهو ما أوضح أهمية البترول الأفريقي للولايات المتحدة، والذي يعد بمثابة المصلحة الأمنية القومية الحيوية لها، ونقطة اهتمام محورية على جميع مستويات ووكالات الإدارة وبخاصة البنتاجون، لذا قامت بمجموعة من المبادرات المتعدة الأطراف والإقليمية.
والتي تهدف إلى تعزيز القدرات الأمنية للدول النفطية الأفريقية، ومنها المهام التدريبية، والمناورات المشتركة في القارة، وإتاحة العديد من البرامج التدريبية العسكرية للدول الأفريقية، وتقديم المساعدات العسكرية الأمريكية لها، وإقامة القواعد العسكرية الأمريكية في القارة لحماية المصادر النفطية، وهو ما أكد على أن السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا باتت تسير إجمالا في إطار مقتضيات الحرب على الإرهاب، جنباً إلى جنب مع الحاجة إلى حماية إمددات النفط الأمريكي من أفريقيا، كما بات تنفيذ هذه السياسة محصوراً في المؤسسة العسكرية الأمريكية، مما يعكس اتجاه الإدارة الأمريكية نحو “عسكرة” سياستها في أفريقيا بدرجة أكبر بكثير من أية فترة مضت.