الذّهب الأبيض” في تونس
وللتوضيح فإنّ “كوتوزال” هي تكتّل لإندماج 4 شركات تستغلّ ملاّحات “خنيس”، “سيدى سالم”، صفاقس (طينة) ومقرين وفق مرسوم 6 أكتوبر 1949 الذي كان دخوله حيّز التنفيذ من قبل المقيم العام الفرنسي في تونس، “جان مونس”، رهنا بموافقة الباي حينذاك حيث يعود استغلال ملاّحة “خنيس” في منطقة المنستير إلى سنة 1903 إلى جانب استغلال ملاّحات أخرى هامّة في عمق التّراب التونسي ممثلة في ما يعرف بسباخ الملح بـ “شطّ الجريد” وأيضا منطقة جرجيس المعروفة بمخزوناتها الهامّة من مادّة الملح.
“شطّ الجريد”: 9 ملفات استثمار لم تتحصل على الموافقة
كشف تقرير، نشر في نوفمبر 2014، أعدتّه دائرة العمل الاقتصادي والاستثمار بولاية توزر، والذي أشار إلى وجود نوايا استثمار عديدة قصد استخراج واستغلال الملح من “شطّ الجريد”، المترامي الأطراف بصفة متداخلة بين ولايات قبلي وقابس وتوزر، لافتا إيداع عدد من الملفات في الغرض منذ عام 2013 لدى مصالح الادارة العامة للطاقة والمناجم بوزارة الصناعة والطاقة لم تتحصل على الموافقة حيث أظهر التّقرير أنّ 9 ملفات لمستثمرين وشركات استثمارية تمت احالتها الى المصالح المعنية لاتخاذ الاجراء المناسب فى شأنها.
ويدعو التقرير الادارة العامة للطاقة والمناجم للنّظر في هذه الملفات قصد التسريع باستغلال الملح بـ”شط الجريد” بما يساهم في تنويع القاعدة الاقتصادية ودفع التنمية والتشغيل بالجهة حيث تمّت الاشارة كذلك الى أن استخراج مادة الملح تستغله مؤسسة واحدة منذ عقود، وهي صاحبة الامتياز الوحيد في استخراج الملح مما يسمح لها باستغلال حوالى 100 الف طن سنويا على مساحة 800 هكتار، وهو ما يطرح اشكالا حسب التقرير في غياب المنافسة في هذا القطاع من ناحية وتأثير عمليات الاستخراج الحالية على البنية التحتية خصوصا على مستوى “الطريق الوطنية رقم 16” وأيضا على المجال البيئي من ناحية أخرى.
ويتوفر “شطّ الجريد”، وفق الدراسة المنجزة صلب التقرير، على أملاح معدنية من “كلورير الصّوديوم” و “البوتاس” وأملاح “المغنيزيوم” و “البرومير” وذلك بطاقة انتاج سنوية قد تصل الى 300 مليون طن حيث تعدّ الاملاح المتوفرة بكميات كبيرة من أهم الثروات لقيمتها الكبيرة في عالم الصناعة والطب اذ تستخدم في صناعات دبغ الجلود والأصباغ والورق والحرير الصناعي الى جانب استخدامه الواسع في عمليات التّبريد وانتاج المنظّفات وفى مجال الصناعات الكيميائية.
ملح جرجيس: ارتدادات عمليّة استغلال “الملح” على المستوى البيئي والإقتصاديّ
تقول معطيات رقميّة حديثة نسبيّا أنّ استخراج الملح في منطقة جرجيس يحقّق مداخيل ماليّة هامّة للشركات التي تمتلك “حقوق الإستغلال” ممثلة في تكتّل الشركات المعروف بتسمية “كوتوزال”، وتبرز معلومات نشرتها بعض وسائل الإعلام التونسيّة أنّ العائدات الجبائيّة الموظفة على استغلال وتصدير الملح والتي تتجاوز 50 مليون دينار سنويّا لا تنتفع بها المنطقة ولا توجّه إلى دفع جهود التنمية وتحسين البنى التحتيّة وخلق مواطن شغل جديدة رغم أنّ مساحة الإستغلال تفوق 50 مرّة مساحة المناطق العمرانيّة بجرجيس، كما أنّ حجم المعاملات الماليّة للشركة الكبرى المستغلّة ما زال غير واضح بالشكل المطلوب.
كما أدّى الإستغلال المكثّف لسباخ جرجيس إلى عديد الانعكاسات السلبيّة تجاوزت الجانب الاقتصاديّ لتشمل المحيط البيئيّ للمنطقة، حيث خلّفت عمليّات الاستغلال وتوسيع أحواض تجميع مياه البحر وغياب الرقابة الرسميّة إلى هلاك عشرات الزياتين على ضفاف السبخة وفقدان التربة لخصوبتها، وهي المشكلة نفسها التي يعاني منها الصيّادون نظرا لعمليّات تعبئة الأحواض بطرق غير مدروسة والتي تؤدّي إلى جرف الأسماك وإنهاك الثروة السمكيّة.
وكان رئيس لجنة الطاقة والقطاعات الإنتاجيّة بالمجلس الوطني التّأسيسي شفيق زرقين أوّل النّواب الذين أثاروا مسألة استغلال الثروات الباطنيّة التونسيّة وتحديد استخراج واستغلال الملح، حيث دعا رئيس الحكومة السّايق مهدي جمعة خلال جلسة التصويت على حكومته الجديدة وقتها إلى الإلتزام بإعادة التفاوض على عقود استغلال الثروات التونسيّة حتّى تلك التّي سبقت الاستقلال معتبرا أنّه “لم من المقبول أن تتحصّل تونس على جزء صغير من إيرادات الملح وأن تخضع عمليّات الاستخراج إلى عقود تعود إلى الحقبة الاستعماريّة”.
ويذكر أنّ تحرّكات شعبيّة ونقابيّة شهدتها جهة جرجيس انطلقت في شهر مارس 2011، حيث تحرّك عمّال شركة “كوتوزال” وعدد هامّ من المواطنين ضدّ ما اعتبروه “سيطرة على مدّخرات المنطقة التي حُرمت من عائدات الملح وتسبّبت في كوارث بيئيّة وتهميش اقتصادي للمعتمديّة”.
اتفاقيّة سنة 1949 : استغلال الهكتار بـ “فرنك واحد“
تم ابرام اتفاقية استغلال استخراج الملح من التراب التونسي بين باي تونس محمد الامين و المقيم العام منذ سنة 1949 و يمنح الشركات الفرنسية حق الاستغلال لهذه الثروة الوطنية لمدّة 50 عاما وذلك الى غاية سنة 1989، ومنذ ذلك الحين بقي التعاطي القانوني مع هذا الملف من خلال الملاحق التعديلية التي ابقت على سعر البيع بـ “فرنك واحد” منذ سنة 1949 الى غاية الان، أي ان السعر لم يتغير على امتداد اكثر 60 عاما.
وكان النّائب السّابق بالمجلس الوطني التأسيسي عن الحزب الجمهوري رابح الخرايفي قال في تصريح صحفي إنّ “الاتفاق بين تونس وفرنسا حول بيع الملح منظم باتفاقية صادرة بمقتضى امر علي في 3 اكتوبر 1949 غرضها تأسيس الشركة العامة للملاحات بالقطر التونسي « (كوتوزال)، وهي بغرض استخراج الملح البحري واحتلال الاراضي الدولية الداخلة في منطقة المكان المعين في الفصل الثاني من الاتفاقية لمدة 50 سنة اي انه انتهى مفعولها سنة 1989، ومنذ ذلك الزمن فان استغلال الملح غير قانوني الى تاريخ صدور مجلة المناجم في 2003 التي نصّ فصلها الثّالث على أن تبقى “رخص الاستغلال سارية المفعول خاضعة، الى غاية انقضائها، الى الاحكام التشريعية التي منحت بمقتضاها” مضيفا أن هذا “الفصل” يمنح الشركة استغلال الملح وبيعه بالشروط المنصوص عليها بالاتفاقية على اعتبار أنه لا توجد أيّة نصوص أخرى في المجلة أو خارجها تنظم استغلال الملح ما عدا الملاحق التعديلية المتعلقة بالاتفاقيات المشتركة بين الشركة وبين العمال التي بدات بأول ملحق تعديلي مؤرخ في 8 مارس 1983.
وغياب تأكيد أو نفي رسميّ، ما زال عدد من وسائل الإعلام يثير مسألة السعر الرّمزي “الغريب” في مجالات المال و الأعمال والإقتصاد اليوم والذي ما زال معمولا به في عمليّة استغلال ملاّحات تونس من طرف الشركات المذكورة، والذي الإعلام في كلّ مرّة أنّه بقي في حدود السعر الاول وهو ” 1 فرنك ” للهكتار الواحد في جميع الملاحات الموجودة بالبلاد التونسية، وهو المنصوص عليه في “الفصل 11” من اتفاقيّة سنة 1949 الذي يتضمّن في نقطته الثّانية تأكيدا على “دفع غرامة على وجه الاعتراف بالحقوق المنصوص عليها بالكتائب السّابقة في مقابل تحويز الملك العام تعين بفرنك واحد في السنة للهكتار الواحد وتنطبق على كامل مساحات الملك العام الممنوح”.
وللإشارة فإنّ النّائب السّابق بالمجلس الوطني الـتّأسيسي رابح الخرايفي صرّح في إحدى المداخلات بأنه سيتصل بالبنك المركزي ويقدم له طلبا رسميا لتقديم قيمة “الواحد فرنك”، وهو ثمن الهكتار الواحد كي يعرف القيمة الحقيقية لاستغلال الارض والثروات الطبيعية للبلاد كما استعرض “الخرايفي” مميّزات الملح التّونسي بالنظر إلى كونه مادّة غذائيّة وصناعيّة ودوائيّة هامّة و بالرغم من ذلك لا يعلم اي احد لا سعره ولا مدخوله ولا الكميات الحقيقة التي يتم بيعها، باعتبار وجود تعتيم كبير على معطيات الانتاج المسجّل والاسعار والمداخيل الحقيقيّة.
“كوتوزال” تنشر بيانا للرأي العامّ ردّا على المطالبة بكشف الحقائق
على إثر المقالات، والمداخلات والتّصريحات الإعلاميّة المتواترة بكثافة بعد الثورة من قبل عديد الفئات والجهات في تونس، والتي تطالب بالمصارحة وكشف الحقائق في ما يخصّ استغلال الثّروات التّونسيّة من الملح، نشرت “الشركة العامّة للملاحات التّونسيّة” بيانا وجهته للرأي العامّ بتاريخ ( 29 جانفي 2014 ) جاء في أهمّه أنّ “شركة كوتوزال تأسست فعلا في أكتوبر 1949، و في ذلك التاريخ أبرم “عقد اللزمة” (03 أكتوبر 1949) الذي ينظم العلاقة التعاقدية بين الشركة و إدارة أملاك الدولة” وأنّه “خلافا لما ذكر، فإن هاته الإتفاقية لازالت نافذة المفعول بالنسبة للفروع المذكورة بها أمّا الفروع المحدثة لاحقا، فهي خاضعة للتشريعات سارية المفعول و لمجلة المناجم لسنة 2003، و بالتالي تخضع كافة أنشطة كوتوزال للقوانين الجاري بها العمل”.
وأكّد البيان أنّ “شركة كوتوزال تخضع للقوانين التونسية، و هي ذات رؤوس أموال مختلطة (65 بالمائة رؤوس أموال أجنبية مقابل 35 بالمائة رؤوس أموال تونسية)، و هي ليست شركة مصدرة كليا كما أنها تسدد جميع الضرائب و الرسوم الجبائية الجاري بها العمل” إلى جانب أنّها “ليست المتدخل أوالمنتج الوحيد بقطاع الملاحات في تونس ، بل يوجد ما لا يقل عن الـ 6 منتجين لمادة الملح من تونسيين و أجانب ينشطون في القطاع و يكوّنون النسيج الإقتصادي لقطاع الملح في حين يتكون الجزء الأعظم من إنتاج الشّركة من الملح البحري تحصل عليه بفضل مجهود من 400 العمّال الذين يقومون بتبخير و تركيز مياه البحر بعملية مستدامة طبيعية ظاربة في القدم، و بالتالي فليس هناك مجال للحديث عن استغلال أو استنفاذ ثروات طبيعية”.
ومن المعطيات الرقميّة الهامّة التي أوردها البيان أنّ إنتاج الشركة لسنة 2013 ناهز 900 ألف طن، منها 750 ألف طن تصدر عبر ثلاثة موانئ تونسية، و تسوّق 120 ألف طنّ بالسّوق المحلية، كما يقدر رقم معاملاتها بـ 30 مليون دينار”، ويضيف البيان “هاته الأرقام هي بعيدة كل البعد عن تلك الأرقام الخيالية التي تحدثت عنها بعض الأطراف ، و التي تدعي معرفتها لقطاع الملح…شركة “كوتوزال” تعمل في كنف الشفافية المالية، و يمكن لأي كان التثبت بسهولة لدى العديد من المصالح والإدارات المعنية سواء، وزارة التجارة، الغرف التجارية، مكاتب الديوانة، فضلا عن البنك المركزي التونسي”.
واعتبرت “كوتوزال في “النقطة السّادسة” من بيانها أنّ “هناك خلط بين إتفاقية 1949 المتبوعة بدورها بـ 3 ملاحيق لسنوات : 1969 و 1972 و 1974 ، و بين الإتفاقية القومية المشتركة للملاّحات بالبلاد التونسية و المنظمة للعلاقة الشغلية بين المؤجرين و الأجراء بقطاع الملاّحات ، و هي من بين الـ 52 اتفاقية قطاعية مشتركة ، تخضع جميعها لمراجعة كل 3 سنوات” مضيفة في “النقطة التّاسعة” ما اعتبرت أنّه “من الثابت أن هناك الكثير من الخلط و المغالطات في هاته الحملة ضد كوتوزال ليس الهدف منها سوى النيل من سمعتها ، و كذلك سمعة موظفيها و سمعة الإقتصاد الوطني أيضا وتضليل الرأي العام ، بإيهامه بمعلومات و أرقام خيالية ، لا أساس لها من الصحة”.
و انتهى البيان إلى التأكيد بأنّ “شركة كوتوزال مستعدة لمدّ أي طرف كان بأيّة معلومات تخص نشاط الشركة ، وهي لم تتردد أبدا في ذلك كما أن الشركة العامة للملاحات التونسية في المقابل تحتفظ بحقها في التتبع لدى القضاء ضد كل طرف تسول له نفسه نشر أخبار زائفة و غير صحيحة من شأنها المس من سمعة الشركة”.
وبين الجدل المثار بين هذا الطرف وذاك تظلّ الثّروات التّونسيّة سواء الطبيعيّة أو المنجميّة أو الطاقيّة موضوع السّاعة بالنسبة لشرائح مختلفة من التّونسيين ومن مكونات المجتمع المدني، كلّ ذلك من أجل إرساء مصالحة حقيقيّة تمكّن فعلا من بناء مجتمع مدني متماسك اقتصاده قويّ وثابت، طموح يتطلّب تحقيقه اعتماد منهج المصارحة والشفافيّة وتوخّي مبادئ الحوكمة الرشيدة التي تؤسّس للتصرّف السّليم في الثروات والمدّخرات الوطنيّة.