تجارة الأعشاب الطبيّة في ثقافة التّونسي..
هذه “الوصفات العشبيّة” والتي وإن اعتبرها البعض ضربا من ضروب الشّعوذة والدّجل فان شقّا آخر يؤمن بفاعليتها في طرد الأمراض ويؤكّد نجاعتها في تخفيف الآلام بشكل أسرع وأنجع من العلاج بالأدوية الكيميائيّة.
350 نبتة طبيّة للتّداوي وصادرات تناهز قيمتها 20 مليون دينار
تتوفّر بتونس حوالي 28 وحدة تحويل وتقطير منها 10 وحدات لتحويل مادة “الكليل الغابي”، و18 وحدة لتحويل الزّيوت الرّوحية المتأتية من الكليل والريحان، كما أن أغلب النّباتات التّـونسيّة توجّه نحو التّصدير، وخاصة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، وقد ارتفعت قيمة صادرات البلاد التونسية من النباتات الطبية والعطرية من 8 ملايين دينار سنة 1990 الى 15.3 مليون دينار سنة 2001 في حين يؤكّد الخبراء أنّ مداخيل صادراتنا من الحشائش الطبيّة خلال السّنوات الـ 5 الأخيرة يضاهي 20 مليون دينار.
ويذكر أنه تم إحصاء 350 نبتة صالحة للمداواة في تونس والتي يمكن تسويقها، مثل النّباتات العطرية، والنباتات المستعملة في صناعة مواد التجميل كما أن المساحات المخصصة لهذه النّباتات في بلادنا تفوق الألف هكتار كما تبلغ طاقة إنتاجها الإجمالية من المواد الأولية حوالي ألفي طن سنويا.
ومن أشهر النّباتات التّونسيّة المستعملة في إنتاج العطور، والتي منحت بعض المنتجين جواز المرور إلى العالمية والشهرة، زهرة الأرنج والعطرشية والبسباس والورد العربي والحبق والنعناع والطرنجية، وكذلك نباتات الفل والياسمين وهي من أهم النباتات التي تعتمد عليها الزراعات الطبية والعطرية في تونس.
“سوق البلاط” : الواجهة التّجاريّة الكبرى للأعشاب الطبيّة في تونس
يعدّ “سوق البلاط” الواجهة الكبرى المختصّة في تجارة الأعشاب والنباتات الطبية والزّواحف، وهو من بين الأسواق القلائل في المدينة العتيقة التي لم تتأثر بالأزمة الاقتصادية التي خلّفتها الثّورة بل يكاد يكون السّوق الوحيد الذي استفاد من تراجع القدرة الشرائية للتونسيين الذين هجروا الصيدليات والأدوية الكيميائية التي ارتفعت أسعارها، بحثاً عن الشفاء من الأمراض أو اتّقاء لشرور السّحر بالأعشاب التي تهبها الطبيعة، وأدرك تجار السوق أسرارها ومنافعها.
وينفــرد أهل السّوق بالـدّراية في تجارة الأعشاب الطبية التي توارثت خبرتها عبر الأجيال، فالتجار يدركون بجدية الأعشاب والعقاقير التي يروجونها ويستعينون بالكتب المختصة للتداوي ككتاب “المعتمد في الأدوية المفردة” للتركماني ومؤلفات ابن سيناء وغيرها، والتي تتضمّن وصفات علاجيّة لمستحضرات الأعشاب الطبيعيّة المنصوح بإستعمالها للتّداوي من أمراض خطيرة على غرار السّرطان والرّوماتيزم والتهاب الكبد الفيروسي، كما يوفر لزبائنه أعشاب مضادة للسكري وضغط الدم وموانع طبيعية للحمل.
ويرتاد السّوق حرفاء من كل الفئات الاجتماعية، فبينهم البسطاء والأغنياء وبينهم المتعلّم المثقف وغير المتعلّم، وتبقى النّساء في مقدّمة الوافدين يوميا على السوق، إمّا بحثاً عن أعشاب الشّفاء أو البخور الجالب للحظّ أو المبطل لمفعول السحر والحسد حسب المعتقدات السّائدة، حيث تجتذب السّوق زبائنها بفضل الأسعار الزهيدة لمعروضاتها من العقاقير والزيوت بشكل تتراوح فيه تعريفة حزمة الأعشاب ما بين 500 مليم و20 ديناراً.
وتعمل السّوق بالحيوية نفسها على مدار السنة، فلا تكفّ طلبات الحريف من الجنسين صيفاً وشتاءً، ففي شهر رمضان يطلب فيه الزبون أعشاب علاج أمراض المعدة، وفي الموسم الصيفي يقصد البعض من أفراد الجالية التونسية المقيمة بالخارج السوق للتزود بأعشاب يحملونها عند العودة إلى بلد الإقامة، ويشتري السياح الأجانب غالباً “جوز الطيب” و”الزهور المجففة” لاستعمالها في طبخ بعض الأطباق الشرقية.
وشهدت تجارة الأعشاب على مستوى سوق البلاط في ما بعد الاستقلال تراجعا حسب قدماء المهنة، لكنّها استعادت ازدهارها في السنوات الأخيرة، وتعددت دكاكين بيعها لتشمل قسماً من الأسواق المحاذية ويتراوح رأس مال فتح دكان بيع الأعشاب، حسب الدراسة البحثية التي أعدت حــول تجارة رأس المال الأعشاب الطبية في هذا السوق ما بين 500 و2000 دينار تونسي.
ويشتكي التّجار الأصليّون من ارتفاع عدد الدّخلاء على المهنة ممن يدّعون المعرفة بأسرار النباتات، معتبرين أن رواج هذه التجارة جعلها وجهة “استثمارية” محبذة لدى العديد من سكان ومرتادي المدينة العتيقة.
المؤرّخون مختلفون حول تاريخ محدّد لنشأة السّوق
عديد الآراء تختلف حول تاريخ “سوق البلاط” ونسبتها، فهناك رأي يقول بأن السوق تعود إلى فترة “الأغالبة”، أي القرن الثالث هجري (التاسع ميلادي) وآخر يقول إنها اتخذت هذا الاسم خلال حكم بني خرسان في أوائل القرن السادس هجري (الثاني عشر ميلادي) وهكذا فإنها نسبت إلى البلاط الذي فرشت به أرضيتها، وتوحي كلمة “بلاط” من منظور آخر بقرب بلاط بني خرسان وقصرهم أي مكان حكمهم من مكان السوق، كما هناك من يقول إن هذه السوق تعود إلى فترة بناء ” الكتبيين “حيث يذكر بأن الفترة الحسينية اشتهرت أيضاً بعدد من البناءات فشيد حسين باي (1117-1153 / 1705 -1740) “سوق السكاجين” و”سوق السراجين”.
ويوجد جامع يتوسط هذه السوق عند نهاية القسم غير المسقوف وبداية من القسم المسقوف أي في الزاوية الجنوبية في نقطة التقاء ” نهج الكنز” و”سوق البلاد” وهو الجامع الإشبيلي ويعود تاريخ بنائه إلى القرن الرابع هجري (القرن العاشر ميلادي) وله محراب مزخرف بالفسيفساء (الحرش) الملون على غرار قبة البهو بجامع الزيتونة وترجع الواجهة على الصحن إلى القرن الرابع الهجري، أما الصّومعة فهي أحدث عهداً إذ ترجع إلى القرنين السابع والثامن هجري كما توجد نقيشة على واجهة الجامع تحمل نفس التاريخ أي القرن الرابع، كما توجد في السوق خلوة “سيدي أبي الحسن الشاذلي” (على مستوى آخر نهج المطيرة) وقد كانت محلاً للشيخ الذي توفي سنة 353 هجري (964) ميلادي.
ويرى بعض الباحثين أن هذه السوق لعبت دوراً هاماً في عصر “الدولة الحفصية”، وقد كانت الأعشاب والأزهار التي يستعملها تجار العطورات لتقطير بعض العطور والرياحين تستورد وكانت سوق البلاد مركزها الأساسي، كما يؤكد هؤلاء الباحثون أنّ السوق قد اختصت في بعض الفترات وفي بعض أقسامها ببيع الأعشاب الطبية والعقاقير حيث يذكر المؤرخ محمد بن عثمان الحشايشي (1853-1912) في كتابه ” العادات والتقاليد التونسية: الهدية والفوائد العلمية في العادات التونسية” في الحديث عن أمراض الأطفال أنه “عند إصابة الأطفال بسعال تعاجله العجائز ببعض الحشائش تباع في سوق البلاط وأنواع شراب ولُصق توضع على الصدر من زرّيعة الكتان ( أي بذرة الكتان)”.
ولم يتم التعرض إلى نشاط السوق إلا في قرار الوزير الأول المؤرخ في 21 جانفي 1937 إذ كان النص الوحيد الذي يضبط ضمن قائمة الحرف والمهن والصناعات التقليدية التي تمارس في الإيالة مهنة بيع الأعشاب الطبية.
ويسجل التاريخ أن تجارة الحشائش أو الأعشاب كانت في الفترة الممتدة من 1934 إلى 1953 (عهد الحماية) خارج سوق البلاط حيث ازدهرت في محلات بيع الأعشاب الطبية بأماكن عديدة من المدينة وقد انتشرت هذه الدكاكين في مختلف أحياء المدينة العتيقة والحديثة من “نهج اراقو” إلى “نهج مرسيليا” و”نهج فبركات الثلج” و “نهج البرتغال”.
وقد لاحظ باحثون تراجع تجارة الحشائش على مستوى سوق البلاط في ما بعد الاستقلال لكنها استعادت بعض ازدهارها في السنوات الأخيرة وتعددت دكاكين بيع الأعشاب الطبية لتشمل قسماً من “نهج الصباغين”. كما أنها انتشرت في ولايات “سوسة” و”صفاقس” و”القصرين” و”قابس” و”صفاقس” و”بنزرت”.
فضائيّات ووكالات مختصّة في التّرويج للتّداوي بالأعشاب الطبيّة
في السنوات الأخيرة تطوّر تسويق وتجارة الأعشاب والمستحضرات الطبيعيّة وأخذ شكلا مغايرا للإنتصاب التقليدي المألوف، حيث تكاثرت قنوات تلفزيّة عربيّة ودوليّة متخصّصة في تسويق الأعشاب لمداواة الأمراض الجسديّة وعلاج الأمراض النفسيّة و”إزالة السّحر والتابعة” وأيضا للتجميل وللتنحيف والتّسمين، فضائيّات تتابعها شرائحة واسعة من التونسيين لا سيما من النّساء، ويقبلون على الخدمات التي يسديها أصحابها ويتصلون بالعناوين والهواتف والعناوين الإلكترونيّة التي تعرضها الشاشات من أجل اقتناء العقاقير الطبيعيّة والمستحضرات العشبيّة.
وتنتشر في ولايات الجمهوريّة وكالات ونيابات تجاريّة ذات منشأ تونسي وأخرى أجنبيّة تعمل على عرض وتسويق “الوصفات العلاجيّة”، حيث تكثر هذه “النيابات” في مراكز المدن الكبرى وفي المناطق والجهات ذات الكثافة السّكانيّة العالية بغية استقطاب عدد كبير من الحرفاء، حيث تحمل أغلب المنتوجات العشبيّة أختام وماركات تثبت أنّها مورّدة من بلدان عربيّة وآسياويّة وخليجيّة وهنديّة وصينيّة.
وفي خضمّ غلاء الوصفات الطبيّة والأدوية الكيمائيّة والعقاقير المصنّعة خاصّة في ما يتعلّق بالأمراض الخطيرة والمزمنة، يتوقّع المتابعون آفاق واعدة لقطاع النباتات الطبية والعطرية بالنسبة لتونس حيث ما انفكّ الطّلب يتزايد على هذه النّباتات وطنيّا ودوليّا، لا سيما في ظلّ توفّر قدرات علمية وفنية في مختلف المجالات ومؤسسات لتثمين وتصدير منتجات هذه النباتات.