تونس تنفق آلاف المليارات لدعم المحروقات سنويّا
قضية إستراتيجية
إذا كانت الدولة في ضوء الاستشراف الذي توصّل إليه الخبراء، بادرت ببعث الوكالة الوطنية للتحكّم في الطاقة التي اشتغلت كثيرا على مواضيع ترشيد الاستهلاك وحققت نتائج طيبة خصوصا منذ سنة 2005 حيث تم التقليص في الكثافة الطاقية لتصل إلى مستويات متقدمة (310 كيلو طاقة لإنتاج ألف دينار من الناتج المحلي الخام) علما بأن المعدّل العالمي هو في حدود 310 والأوروبي في حدود 170 ، فإن عملا كبيرا ينتظرنا من أجل تحسين النجاعة الطاقية والتحكم في الطاقة بكل دقّة.
ويؤكد الخبراء أيضا أنّه لا يمكن إثبات معطيات أو مؤشّرات باتّة حول قطاع الطاقة في تونس وأنّ ما يقال وينشر يظلّ دائما في نطاق التقديرات، لافتين إلى أن موارد تونس من البترول والغاز بصدد التراجع في حين يتزايد الاستهلاك، ما يعني أننا أمام عجز يتفاقم يوما بعد يوم.
عجز طاقي بنسبة 20 بالمائة
انتظم مؤخرا حوار وطني حول الطاقة في أفق سنة 2030 قدّم خلاله فريق العمل مجموعة المشاريع في ضوء الاستشراف الذي توصّل إليه خبراء الطاقة منذ الثمانيات بحصول عجز في ميزان الطاقة.
العجز بدأ بالفعل يظهر منذ سنة 2000 بعد ما كان لدى تونس فائض من الطاقة المنتجة ومن الطاقة المستهلكة وفي هذا الإطار يقول الحبيب الملوّح، مدير مركزي بالشركة الوطنية لتوزيع البترول وعضو في فريق العمل المكلف بالحوار الوطني حول الطاقة أنّ العجز اليوم يقدّر بحوالي 20 بالمائة، وهو أمر يبعث على الانشغال ويستدعي التفكير في ضبط استراتيجية تضمن البلاد بواسطتها حاجياتها من الطاقة خاصة الكهرباء والمحروقات والغاز.
وقد بلغ العجز الطاقي سنة 2012 ما يقارب 1.67 مليون طن مكافئ نفط، وهو ما يعني أن ما تنتجه البلاد من المواد البترولية الخام والغاز الطبيعي لا يغطي حاجياتها من الاستهلاك علما بأن إنتاج تونس من الغاز لا يغطّي سوى 50 بالمائة من الاستهلاك الذي تذهب 98 منه إلى إنتاج الكهرباء.
ويذكر أن الغاز الطبيعي يأتي بواسطة الانتاج الوطني (حوالي 53 بالمائة) والبقية مستورد من الشقيقة الجزائر (47 بالمائة ) وهو ما يعني أن البلاد لديها مكان واحد تجلب منه هذه المادة الحيوية.
ويشار إلى أنه في نسبة الـ 47 بالمائة المورّدة، هناك الإتاوة التي تمثل ما يقارب 16 بالمائة من الاستهلاك الوطني باعتبار أنبوب الغاز الذي يعبر البلاد التونسية من الجزائر نحو أوروبا، وقد تقلصت الإتاوة سنة 2013 نتيجة لتراجع استهلاك الطرف الأوروبي من الغاز.
علاوة على ذلك فإن الانتاج الوطني من المحروقات عن طريق مصنع تكرير النفط، لا يغطي سوى 40 بالمائة من الاستهلاك والبقية مستورد.
نفقات الدعم أين تتبخرّ؟؟؟
أكدت مصالح وزارة الطاقة والمناجم انخفاض دعم المحروقات في حدود 400 مليون دينار نهاية سنة 2015 مقابل 3800 مليون دينار موفى سنة 2013، الأمر الذي أثار عدة تساؤلات حول منهجية احتساب مخصصات الدعم لا سيما وأنّ تراجع سعر البرميل خلال الفترة المذكورة كان بنسق أضعف بكثير رغم أهميته.
وتجدر الإشارة إلى أنّ أسعار النفط تشهد منذ عدة أشهر انخفاضا وصل إلى نسبة 45 بالمائة منذ بداية سنة 2016 لتقدر قيمة البرميل بـ 30 دولارا في المعدل العامّ، وذلك نتيجة فائض الإنتاج على مستوى الدول الرئيسية المصدرة للبترول ورفضها الالتزام بتخفيض حصصها في التصدير لرفع مستوى الأسعار.
ويحيلنا الرجوع إلى أرقام 2013 إلى مفارقات حسابية تثير الانتباه على أكثر من مستوى، ذلك أنّ الإحصاءات الرسمية تفيد بارتفاع الدعم المخصص للمحروقات بنسبة 680 بالمائة مقارنة بسنة 2010 رغم عدم ارتفاع الواردات بنسق مواز إذ لم تتجاوز نسبة الاستيراد 112 بالمائة كما لم يسجل الدينار التونسي هبوطا حادا مقارنة بالدولار حيث لم تتخطّ نسبة تراجعه 7 بالمائة آنذاك.
وبمزيد التدقيق في هذه المسألة يتضح أنّ الموضوع لا يعكس أيّ تناسب بين انخفاض الإنتاج خلال الفترة 2010-2013 الذي لم يتعدّ 57 بالمائة وارتفاع الواردات لمعالجة النقص المسجل في هذا المجال، كما تفيد عديد المعطيات بأنّ استهلاك البلاد من النفط والغاز قد سجّل تقلصا هاما منذ 2010 تبعا لتراجع نشاط عدة قطاعات اقتصادية وهو ما ظهر بوضوح في النقص الحاصل في نسب نموّ الناتج المحلّي الإجمالي.
غير أنّ التمعن في المسألة يبيّن أنّ ارتفاع مخصصات دعم المحروقات يُفسر أساسا بتقييدها ضمن الحسابات المالية الخاصة بتعديل ميزانيات ثلاث شركات وطنية كبرى وتغطية عجزها المالي وهي الشركة التونسية للكهرباء والغاز والمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية والشركة التونسية لصناعات التكرير بواقع 2570 مليون دينارا وذلك على خلاف الصيغ الترتيبية المعمول بها في مجال المحاسبة العمومية.
وفي العموم، يدعو التصرف في موضوع دعم المحروقات وتضارب المعطيات الصادرة عن الجهات الرسمية إلى التفكير في ضرورة توحيد مناهج الإفصاح فيما يتعلق بجميع الإحصاءات المتصلة بإنتاج النفط والغاز وتوريدهما إضافة إلى توضيح كل ما يهم جباية المحروقات وهو الأمر الذي يكتنفه لبس وتعقّد.
موقف اتحاد الشغل:
اعتبر قسم الدراسات والتوثيق بالاتحاد العام التونسي للشغل أن الخطوة التي اعتمدتها الحكومة في ما يتعلق بمنظومة التعديل الآلي لأسعار المحروقات والتي دخلت حيز التنفيذ يوم 16 جويلية الجاري تفتقر للشفافية، لافتا إلى أن “وزارة الطاقة والمناجم لم تقم بنشر الأنموذج الذي وقع اعتماده لتحديد السعر المرجعي وتركيبة الثمن النهائي للبيع، ولم تتخذ إجراءات لإعادة النظر في منظومة الدعم ككل من اجل المحافظة على القدرة الشرائية للطبقة الضعيفة والمتوسطة على حد السواء”.
و تضمّن البيان الذي نشر خلال الشهر الحالي للغرض أن الأسعار الجديدة لا تزال مرتفعة ولا تعكس التكلفة الحقيقية، وهو ما من شانه أن يفقد المنظومة المعتمدة مصداقيتها، حيث أعربت المنظمة الشّغيلة عن استغرابها بخصوص عدم التخفيض في سعر البنزين الذي شهد كذلك انخفاض في تكلفته.
وأضاف البيان، أنّه “على اثر التقديرات الأولية التي قام بها القسم فإنه يتبين أن تكلفة المحروقات باعتبار الأداء على القيمة المضافة وهامش الربح لا تتجاوز 1551 مليم للبنزين و1300 مليم للقازوال، وبالتالي فإن المستهلك هو من يدعم المحروقات وليس الدولة”، داعيا إلى نشر الأنموذج المعتمد من طرف وزارة الطاقة والمناجم لتحديد سعر المحروقات وذلك ضمانا للشفافية ولحق المواطن في الحصول على المعلومة .
وأكد اتّحاد الشّغل على ضرورة إحداث صندوق خاص يموّل من فارق السّعر الايجابي المنتفعة به حاليا الدولة ويخصص لمساعدة شركات النقل العمومي على تحسين خدماتها ووضعياتها المالية بما ينعكس ايجابيا على جودة نقل تلاميذ المدارس الريفية ونقل العمال.
“الوضع لا يبعث على القلق“
أشار وزير الطاقة والمناجم إلى انخفاض الإنتاج الوطني من النفط إلى حدود 50 ألف برميل يوميا تسبب، حسب قوله، في تفاقم العجز الطاقي، وذلك بنسبة 35 بالمائة أواخر سنة 2015 دون ذكر الأسباب، غير أنّ الوضع لا يبعث على القلق حسب تقديره باعتبار كثافة أنشطة عدة شركات عاملة في مجال التنقيب والاستخراج في كافة أنحاء البلاد ويبلغ عددها حاليا 53 مؤسسة.
ترشيد الاستهلاك
يؤكّد أهل الاختصاص والعارفين أنّ نجاح منظومة “ترشيد الإستهلاك” لا يمكن أن يتحقّق إلاّ من خلال توفّر 4 عناصر هامّة تتمثّل بالخصوص في:
أوّلا: وعي المواطن التّونسي بدرجة أولى بقيمة هذه المادة الثمينة مع العمل على ترسيخ وتجذير ثقافة ترشيد استهلاك الطاقة منذ الصغر لدى الناشئة وكيف يدرك الجميع السبل الكفيلة بترشيد استهلاك الطاقة خلال الاستهلاك المنزلي والنقل وغيرها.
ثانيا: تطوير الطاقات المتجدّدة، وفي هذا الإطار اشتغلت تونس منذ سنوات على هذا الموضوع لكن تثبت المعطيات أنّ الشركة التونسية للكهرباء والغاز هي المؤسسة الوحيدة التي اعتمدت جزئيا العمل بالطاقة المنتجة بواسطة الرياح، حيث وفّرت حوالي 2 بالمائة فقط من حاجيات البلاد من الكهرباء، وهي نسبة ضئيلة جدا.
ثالثا: تطوير الاستكشاف باعتبار أن الشركة التونسية للأنشطة البترولية لم تقم باستكشاف جميع المدخرات الوطنية من البترول والغاز.
رابعا: مطلوب دعم الربط الكهربائي بين تونس والبلدان الشقيقة والصديقة وخاصة البلاد الأوروبية نظرا لكون هذا الربط يمكن تونس من الحصول على طاقة كهربائية جاهزة بأسعار تفاضلية باعتبار أن فترة الذروة مع أوروبا تصل إلى حوالي شهرين.