الفصل الثاني من رواية دخان فوق الماء
تخللتها أحداث كثيرة أصعبها ذاك الذي حصل بعد تجاوز الباص تلول ربيعة ، تذكرت الذي جرى وتلك التفاصيل التي كادت ان تنهي حياة جميع ركاب الباص ، غطت عينيها بكفيها وضغطت على صدغها كي تطرد من مخيلتها شريط تلك الأحداث المرعبة ، وقالت مع نفسها :
-أي يوم أسود مرّ …!؟
كان بينهم وبين الموت قيد أنملة ، حاولت ان تبعد تلك الصور عن مخيلتها ،أطلقت زفرة طويلة ثم اعتدلت في جلستها بشكل مستقيم اكتافها مرتفعة وعيناها مفتوحتان ، وسائق الباص يسترق النظر إليها بين فترة وأخرى ، كانت متيقظة ومتحمسة لكل ما يدور في الباص وخارجه ” كريمة العراقية ” فتاة في مقتبل العقد الثالث من عمرها طويلة القوام ، نحيلة ، ساقاها طويلتان .
ترتدي فستانا أزرقا باهت اللون وفوقه سترة رمادية اللون من الجلد ، تبدو من تحت غطاء رأسها الأسود خصلات شعر بني اللون ، غطاء الرأس يتدلى على كتفيها ، ذات بشرة بيضاء لوجه مدور يبرز فيه الأنف لكنه يضيف لبقية الملامح جمالا واضح ، لم تتمكن من اكمال دراستها الإعدادية بسبب ظروف كثيرة واجهت عائلتها ، كان والدها وكذلك زوجها والكثير من الاقرباء جنودا في حرب العراق وإيران ، والبعض منهم كما هي الحال لدى زوجها أصابته الحرب في جروح او عاهات ، زوجها يعاني من جرح خطير في يده اليسرى ، اندمل لكنه ترك ضعفا واضحا في جسده ، ادركت مواجهة تفاصيل الحياة في خضم تلك الحرب ، اعتمدت على نفسها في العمل وتوفير لقمة العيش والملاذ الآمن لطفليها ، افتتحت لها مركزا للتجميل قرب ساحة كهرمانة في بغداد ودار معها النجاح وصارت في افضل أوضاع حياتها .
اصبحت لديها دارا سكنية وعدد من العقارات وقطع الأراضي وامتلكت المال والذهب ، وتعرفت على أسرار الكثير من النساء اللاتي يترددن على مركز التجميل ، وكل يوم تكتشف فساد الطبقة الحاكمة من خلال تلك الأسرار التي تثرتر بها الباحثات عن التجميل ، علاقات جنسية خلف ظهور الأزواج وليالي حمراء صاخبة وخيانات لاتفه الاسباب ” نساء بغداد نهر متدافع الامواج لايعرف من اين ينبع والى اين يريد الوصول ” هذا ما كانت تردده بعد كل قصة تستمع اليها ، وكانت فلسفتها عدم التعارض مع من تروي حكايتها – كل ما يهمها استمرار مصالحها دون عرقلة وما شأنها بمن تفعل ما تفعل وهي راضية وغير معترضة على قدرها وسلوكها ،كريمة العراقية امرأة زئبيقة لا يمكن الامساك بها ويمكنها ان تمر من ثقب الأبرة ، وهي تتحدث لكل شخص كما يريد ويهوى ، دبلوماسية أكثر من وزير خارجيتنا ، ولها قرار صارم لا تحيد عنه ، وشخصيتها عملية ولها طموحات تجارية يحسدها عليها اقرب الناس لها.
وهنا أول من تعارض معها في عملها وسلوكها زوجها الذي شعر أنها تتفوق عليه وهي التي تدير كل شيء ، وهنا حصل الخلاف والتصادم الذي عبر إلى الأيام المتواصلة ، هي لا تريد الآن ان تتذكر كل الذي حدث وخلق الفجوة الكبيرة بينها وبين زوجها ، مشغولة فقط في ذاك الأمر الرهيب الذي اقتلعها من بيئتها وعالمها الذي نجحت فيه إلى مدينة أخرى وعالم مجهول وعليها أن تبدأ من الصفر .
قد يكون النجاح أو يكون الفشل والعودة من جديد إلى بغداد والأوضاع المضطربة فيها بفعل الفوضى الخلاقة وكما أرادت أمريكا ، وحلب مدينة عربية هادئة وأهلها في غاية الطيبة ليس أهل حلب وحدهم كل مدن سوريا تعاطفت جدا مع أهل العراق بعد المحنة ، ” نحن شعب واحد ” قالت امرأة من حلب وهي تفتح لهم باب الشقة ، وتجاذبت معها الحديث وجلبت لها ولأطفالها الطعام ، للمرة الأولى تشعر بالحرج من الموقف ولكن العرب الحقيقيون دائما لهم الموقف الشريف ، تركها زوجها في الشقة العارية من الأثاث وذهب لموعد مع صديقه .
ظلت كريمة تنتظر عودته ، وبين فترة وأخرى تنظر من النافذة والوقت يمرّ حتى اقترب ليل حلب من إنتصاف الليل الهادي فيها ، كان الجو خارج الشقة التي تقع في الطابق الرابع أكثر برودة ، هي شعرت بالبرد يخترق ثوب النوم الخفيف ، وطول وقوفها قرب الشباك صعد التعب من قدميها الى ساقيها ، شعرت كما لو أنها محمومة وهي مجرد شبح في مدينة لا تعرف أي شيء عنها سوى اسمها ، نزلت من عينها دمعة مسحتها بكفها ، منذ ان تزوجته وهما عالمين بينهما جدار من الغربة لايلتقيان في همّ ولا في أمنية ولافي رأي ، تلك مصيبة كبيرة ، اعطاها الله كل شيء احبته إلا هذا الزوج ” الصخل ”.
لقد اعتاد ان يتصرف دون أن يقول لها هو بدقة متناهية لا يعير لها أي قيمة وهذا طبعا سلوك نسبة كبيرة من رجال العراق الذين انحدروا من تكوين عشائري ديني طبقي مضغوط بظروف مادية صعبة ، والمرأة في كل الاحوال للسرير والطعام وخدمة البيت ، كان زوجها دائما ينظر لها نظرة إزدراء ويعتبرها ساذجة ويخالفها الرأي عمدا حتى لوكان فعلها فعل الصواب ، بل يندفع لمهاجمتها أمام الآخرين لاتفه الأسباب ، هو لايعير أي أعتبار لكرامتها أو مشاعرها أو صيانة إنسانيتها ، لهذا هي تسميه ” الصخل ” ، كانت تكتم كل غضبها واعتراضها في داخلها حتى تحول ذلك مع مرور الأيام إلى جبل من نار وتوسع الخلاف والكره وتباعدت زاوية الرؤيا لكل شيء ، ولم تكن تجد من يناصرها ، اهلها وأقاربها والأصدقاء يستمعون لكلامها ويقولون بمواساة سريعة وكاذبة كالعادة ” هذا حال جميع النساء – لا يوجد بيت في يغداد لا بل في كل مدن العراق يخلوّ من المشاكل والخلاف بين الزوج وزوجته ” ويعللون فيقولون ” ثقل الحياة وما مرت به البلاد من حروب وحصار قاس أنعكس على سلوك الناس وخاصة في نطاق العائلة بين الزوج وزوجته .
هي لم تشعر معه بالحياة الزوجية السعيدة كانت تراه مثل السرطان الذي التصق بها ، ومع هذا هي كابرت والتزمت جانب الصبر من أجل ولديها الصغيرين ” حسن ورجاء ” الأول له من العمر سبع سنوات ورجاء أصغر منه بعامين ، لكنها تبدو في تصرفاتها أكبر منه، هو منكمش وخجول ومنطوي كثيرا بينما اخته مندفعة ولديها من الجرأة الشيء الكبير والمثير أحيانا ، كريمة ترى فيها سلوكها في طفولتها ، شردت من جديد وقالت في داخلها :
– كيف ستستمر الحياة مع هذا السرطان …؟ ، لا بد من قرار …!يتبع