الفصل السادس من رواية دخان فوق الماء
وقف بجانبه على جناحه الأيمن ابنه الكبير ” علي ” ، من سطح الدار تأتي الزغاريد وتنثر قطع الحلوى والجكليت ، توقف صوت الطبل عندما اقتحم نصف الدائرة التي تشكلها الأجساد رجل في مقتبل العمر وهو يرتدي ملابسه الريفية وراح يهزج ليضيف لفرح مغادرة حبيب المستشفى طعما يريده ذاك الجمع الكبير ، وضع عباءته على ساعده الأيسر واستخدم يده اليمنى وهو يرتجز ويضرب الأرض بقدمه ويدور حول نفسه بحركة راقص ماهر وفي توازن محسوب وتارة يرتفع عن الأرض وتارة تتطلب حركة جسده ان يبدو شبه جالس ثم يقفز وصوته في الغناء لا يتوقف : هدينه ، نهوس ونغني ، لأبن الما يلفظ شينه ، بين الناس امقيمينه ، وخيره كلش غاطينه ، عنوه لبيته اتعنينه ، كضنه سلاح وهدّ بينه ، براس الدنيه أمخلينه ، انجيب الحق لو هدينه ، العايل نشلع لك عينه ، بركان انطق للمر بينه ، والطايح بس إينادينه .
واشتعلت السماء بانفجار إطلاقات المسدسات والكلاشنكوف ، ” حبيب والذين وقفوا معه كانوا في اكتمال الفخر والرضى عن أقاربهم ، تجاوز العقد الخامس من العمر ، ضخم الجسد أحيانا يصبغ شعره الى اللون الأسود ، وعلى محياه نظارة الشباب وسمات الرزانة والرجولة ، ويتصف بسعة الأفق والجد في التصرف ، شديد الإلتزام بالأعراف وقواعد المجتمع ويحيط به الأقارب كالاسورة في المعصم ، يتوافدون على داره طلبا للمعونة في حل مشكلة مستعصية .
يغتبر مرجعهم الاجتماعي وكلمته نافذة فيهم ولا يرد له طلب ولا يرفض قرار ، في مجالسهم يتداولون أفعاله المنصفة والموصوفة بالرجولة وبعد النظر وكيف يسعى لجعلهم في بحبوحة عيش رغد وحالة من التآخي الدائم والتعاضد دون حدود ،عندما يذكر ” أبو علي – حبيب ” تذكر أفعال الخير ، له كتفان عريضتان وصدر واسع وذراعان فيهما عضل كبير وتنتهيان براحتين كبيرتين يعلو أصابعهما شعر أسود كثيف ويرتسم على وجهه ذي الجاذبية المشرب بسمرة أرض الجنوب وخشونة الرجولة واضحة في تفاصيل الجسد ، على ذاك المحيا الهاديء تبدو سمات الطيبة والوقار ، له حضور مهيب بين الجمع الذي يعرفه او الذي لايعرفه ، عرف عنه لطف المعشر مع كل الناس ، لايبادر إلى التصرف الخاطيء هو ينتظر رد الفعل ويحاول الموازنة بالسلوك والقصد ، ملتزم اشد الالتزام بمفاهيم العبادة والعرف الاجتماعي ويتعامل مع سائر الناس بالاحترام والود والمساعدة وعدم التجاوز لايقترب من الفساد أو السحت الحرام ، عندما يجد ثمة فعل غير مقبول صدر من قريب أو أحد أفراد العائلة يسعى الى تقويمه او التنبيه ضده .
من خلال تلك الممارسات الصادقة يكشف للناس عن تجربة وخبرة وألتزام مبدئي ، ظروف الحياة الصعبة التي دفعته للعمل بكل المهن وعركته من خلالها التجارب ، كم يتمنى في قرارة نفسه أن يناديه الناس ” ابو كريمة ” لكن العرف الاجتماعي يقضي ان ينادونه ” ابو علي ” وأبنه علي شاب ذكي على سجايا والده وهو ذراعه اليمين ، من يراه يظنه نسخة طبق الأصل من والده ، هو الآخر يحب شقيقته كريمة كثيرا ويتمنى ان يقدم لها الخدمة التي تريدها ، لكن كريمة تدرك والدها هو الجدار الذي تستند إليه من بعده يأتي دور شقيقها الذي تتوسم فيه كل الخير ، ابا كريمة يفهم بقوانين العشائر وتلك السنن التي طبقها الأجداد ويسعى لصيانة حقوق أهل عشيرته ومساعدتهم للحصول على العمل أو السكن أو زيارتهم في المشافي وحضور أعراسهم وحالات العزاء ، كما يشارك في وفود من تجمع وجهاء العشائر لرأب ذات البين ، ويقولون عنه هو – رفعة الرأس – أولاده وبناته يعتزون به أيما اعتزاز .
هو يسعى لجعل حياتهم هانئة سعيدة ويساهم في دعمهم ، من أجل تثبيت كل فعل قوى وصحيح يسافر إلى أصقاع بعيدة من أرض العراق للأصلاح بين الذوات أو للتعزية بفقيد أو للمباركة بزواج ، لم يكن موظفا في نشاط الدولة ولكنه تدرج في مزاولة اعمال التجارة مبتدئا مشواره في بيع منتجات البلاستك المنزلية وكذلك مصنوعات الفافون والنحاس ، تمكن من جمع المال الحلال لشراء هذه الدار الكبيرة التي يسكنها جميع أفراد عائلته ن تقع في منطقة قناة الجيش او ما يطلق عليها شارع فلسطين ، تلك المنطقة التي توسعت .
وصارت أكبر تجمع يضم سكن الطبقة الوسطى وكبار الموظفين في الدولة ، سكنه في هذه الدار فرض عليه أن يفرز ردهة كبيرة في مقدمتها للضيافة وكانت عامرة دائما بالضيوف الذين يفدون من مناطق بغداد أو من المحافظات الجنوبية كما طوع أبنائه وزوجته ” بهية ” لخدمة الضيوف ، إذا وجد أحد ضيوفه قد ضاقت به ظروفه وحاصرته أية أزمة بادر إلى تقديم الممكن من المساعدة وينطبق كثيرا عليه المثل المعروف ” يجود بالنفس والجود بالنفس أقصى غاية الجود ” من طراز الرجال الذين لا يتكررون فيه الكثير من الشهامة وسجايا السلف القديم هو مضرب المثل لدى معارفه وأقربائه ، كم من مرة أقرض معارفه وأقربائه المال ونظر برحمة الى ظروفهم وتنازل عن استرداده ، وفي حال إقراض المال للآخرين ما من أحد يماطله حقه أو يتلكأ في أعادته في الوقت المحدد والسبب يعود الى هيبته وشخصيته وسجلها المريح في التعامل مع الناس ، المحل الذي يملكه في أسواق جميلة يتقاطر عليه الزبائن وبضاعته مضمونة وهو لايبحث عن ربح جشع وطريقته في البيع مريحة .
إلى جانب احترامه للزبائن كما لو كانوا أخوته أو أبنائه أو أفراد عشيرته ، يعمد إلى تأجيل عمليات الدفع إذا تعسرت أمورهم ، له عينان ثاقبتان كأنهما عينا صقر صحراوي ولا تخلو نظراته من الحنان ونشر الطمأنينة تنفذان في حنايا الصدور وتكتشفان المخفي لدى الآخرين وما جبلت عليه خصالهم وما لديهم من مشاعر وأفكار ، يحاور العقول والقلوب ويمتلك راية الصفاء والود للجميع ، من عادته ان يخرج بعد افطار المساء الى المسجد ليؤدي الصلاة ، وعندما يعود يجلس مع أولاده وبناته كأنه القمر تحيط به الكواكب يسمع من زوجته ومنهم ويتجاذب معهم الأحاديث المرحة .
كما يشاركهم الرأي والأفكار وكأنه صديقهم ذاك السلوك غرس في أبنائه القوة والود وإدامة حالة التآخي ، تمتد ساعات السمر حتى منتصف الليل ثم يذهب كل منهم إلى مخدعه ، في فترة إنفراده بزوجته ” بهية – أم كريمة ” يمطرها بالكلمات المعسولة ويفرش لها سجادة من الود ويسمعها الكلمات التي تنتظرها آذناها منه ، هو يعرف تماما ماذا تريد بهية ، لقد خبرها في رحلة هذه السنين الطويلة ، كانت بمثابة الزوجة الفاضلة ، المطيعة له ، المحافظة على أمواله وعلى صلة الزوجية ، دائما تعامله وكأنه طفلها الصغير وتهتم بحركاته وأوامره ، هذا السلوك لا يغادرها ، دائما تنظر إليه نظرة إجلال وأكبار ، تقول في أعماقها ” لولا حبيب ما كبرت هذه الأسرة ” حبيب هو حبيبها وزوجها وتفخر به وتشهد أمام بناتها أنها تمتعت جدا برجولته كما تثقفت من كلامه العذب الصادق وسلوكه نور عينها وهو مضرب المثل عند الناس.
هو كنزها الكبير لم تخالفه في أمر ولم تفرض عليه رغباتها ، لكنها تشعر بالذنب من ضغطها عليه كي يزوج ” كريمة ” إلى ” سالم ” الذي اكتشفت بعد فوات الآوان انه لم يكن مناسبا ، تشعر بوضوح أنها انحازت إلى أحد أقاربها على حساب مستقبل أبنتها وسعادتها ، لقد ظل وضع ذلك الزواج مربكا ، لعدم وجود حالة التكافؤ والقدرة ، وإختلاف الخصال أصبحت في قناعة ولكنها لاتفصح عن مشاعرها ، ذاك الزواج لن يستمر طويلا بالرغم من وجود طفلين لدى كريمة ، في تلك الليلة والجميع ينتظر عودة حبيب من الصلاة في المسجد ، كانت ذكرياتها تنهال من ليلة زفافها حتى اللحظة التي هي فيها ، ولم يوقفها سوى طرقات قوية على الباب الخارجي مع أصوات صراخ متصاعد ومن بين تلك الأصوات سمعت أحدهم يقول : – لقد خطفوا ” أبو علي ” ….! ” يتبع “