الأسطورة الصهيونية المعاصرة والامبراطوريات الإنقلابية
فهو يستنتج أن اليهود في غالبيتهم العظمى ليسوا ساميين أي من نسل بني إسرائيل القدامى ، بل اريون وقوقازيون خزر على وجه التحديد ،فهم من الجنس هجين وغير النقي وينقض الكتاب كذلك الزعم بوجود تراث حضاري مشترك ، وان كل ما صدر عنهم عبر التاريخ كان جزاً من ثقافات وحضارات الأمم التي عاشوا بينها .
وليس من شك في أن هذه الأستنتاجات التي صيغت في الفصل السابع تبدو ذات أهمية كبرى للوهلة الأولى ، ذلك أن كوستلر وطوال ستة فصول دخل في تلا فيف المصادر العربية حول القبائل الخزرية ودولتها اليهودية ، وفتش في المصادر العربية حول القبائل الخزرية ودولتها اليهودية ، وفتش في المصادر البيزنطية والروسية القديمة واستند إلى عدد كبير من ابحاث المؤرخين الغربيين المعاصرين ، وأستنتج في نهاية الفصل السابع بعض أهم النتائج قائلا ً أن الدلائل المعروضة من قبله وقبل المؤرخين المحدثين تثبت : ” أن الغالبية العظمى من اليهود المعاصرين ليسوا من أصل فلسطيني ” . ويضيف ” وإذا كان عسيراً أن تحدد نسبة الخزر العددية إلى العناصر السامية وغيرها ، فإن الدلائل المتراكمة تجعل المرء ميالاً لى الأخذ بالأحصاء الموثوق .
والدال على أن الغالبية العظمى من اليهود في العصور السابقة كان أصلها من بلاد الخزر –ص 266- ” ومن الواضح أن هذا الأستنتاج يلغي في طريقه اسطورة ” شعب الله المختار ” وينفي وجود أي ” نقاء عرقي ” أسطوري لليهود .
ومن هنا فأن قشرة الموز قد هيئت جيداً لتلائم الوضع ، لكن من الصعب لغير المدقق رؤية إلى ماذا سيصل من يسمح لنفسه بالأنزلاق عليها . وقبل الخوض فيما استبدله كوستلر من أساطير لتحل محل الأساطير الصهيونية التقليدية حول ” سامية اليهود ،وكونهم شعباً مختاراً ، ووجود أرث ثقافي واحد لهم ” .
وتجدر ملاحظة أن المؤلف ، وبعد أن اسنفذ كل روايات المراجع القديمة وأبحاث المحدثين ، ودار في جنباتها طولاً وعرضاً ، عجز عن تقديم أي معلَمّ من المعالم المفترضة لأزدهار حضارة وثقافة يهودية خزرية ، بل أنه بالأحرى لم يشأ أن يتطرق إلى هذا الأمر ” المحير ” وألمح أليه ، أكثر من مرة بطريقة غامضة ، أثناء بحثه عن أسباب أعتناق القبائل الخزرية لليهودية .
فهو لا يقبل بعض نتائج أبحاث ألمؤرخين المجريين والسوفيات ، حول طبيعة هذه القبائل وموقعها بين القوتين العظميين في القرون الوسطى ، الأمبراطورية البيزنطية والدولة الأسلامية ، وكونها قبائل امتهنت تجارة الحرب وكدست الذهب والسلع من خلال استغلال موقعها الجغرافي وإشارفها على طرق التجارة المائية والبرية بين الشرق والغرب .
كما لم يقبل بما اوردته المصادر العربية القديمة عن ” سر ” تهود الخزر ، ولم يأت مقابل ذلك ، بشيء يضيء هذا الغموض .
ومن الغرابة حقاً ، أن يجري فجأة كما يشير المؤلف اكتشاف ” باهر ” لأمبراطورية خزرية مزدهرة ، وما يبدو أنه مفاجىء ، استند في الواقع إلى دراسات مؤرخين صهاينة رسميين ، اضافة إلى أبحاث ” رينان ” الفرنسي ، والوصفات العنصرية ، حول لون الشعر والعيون وشكل الأنف وفصيلة الدم ، وهذه كانت أرضاً ممهدة نثر فيها كوستلر فسيفساء من الذكاء اللغوي ، بقدر ما يبدو جديداً ، فإنه بعيد عن الحقيقة التاريخية . هل ثمة أسرار في هذه الأكتشافات السحرية ؟ نعم دون شك …
لقد استنفذت خرافة ” شعب الله المختار ” ويافطة ” معاداة السامية ” التي انتجها الرأسمال اليهودي الكبير بالمناصفة مع الرأسمال الغربي ، في اللحظة التي قام فيها الكيان الصهيوني وأصبحت ” الدولة ” واقعا مدججاً بكب حجج السلاح والسياسة الوحشية . فما هي حاجة الكيان الصهيوني لخرافة العرق اليهودي النقي ، في علمنا المعاصر ؟ إنها حاجة الأرشيف العتيق ، كما هو حال ” معاداة السامية ” يجري اخراجها من الأدراج عند الحاجة ، للأبتزاز أو للخداع ، أما الحاجة الفعلية لأساطير من نوع جديد ، فتبدو راهنة وملحة ، أكثر بكثير من الترسانة القديمة . وإذا وضعنا بنظر الاعتبار واقع أن أشد المؤرخين الغربيين مغالاة لا يستطيع أن يبتلع صخرة مثل صخرة ” شعب الله المختار ” ،ناهيكم عن المواطن الغربي العادي ، فإن الوضع يتطلب إبدال الخرافة بخرافة عصرية . وقد بنى كوستلر هذه الخرافة حجراً حجرا ، وكلمة كلمة وبطريقة مروغة وذكية ، تترك الأنطباع الأهم من وجهة نظره وهو وجود دولة يهودية مزدهرة سماها امبراطورية ، ذات ثقافة وحضارة متميزة غير الحضارتين البيزنطية والإسلامية ، أصبحت بعد تدميرها ، الأساس الفعلي للحضارة الغربية المعاصرة ، بدءاَ من عصر النهضة .
و في معايير الدعاية الصهيوية والأمبريالية ، فأن الأحفاد الأريين للخزر ، الذين يعيشون الآن في الكيان الصهيوني ، هم رسل الحضارة الغربية ، و ” العالم الحر ” في وديان ورمال الصحراء العر بية ، وعند هذه النتيجة بالذات ، يبدو أن الأساطير تفيد حقاً ،في اظهر الأصول التاريخية الزائفة للتعمية على الأسباب الحقيقة للزواج الكاثوليكي بين الصهيونية والغرب الأمبريالي ، من امبراطورية الخزر حتى التحالف الأسترتيجي الصهيوني الأمريكي .
يقول كوستلرإن اعتناق القبائل الخزرية لليهودية كان مفاجئاً وغامضاً ، فكيف تعتنق هذه القبائل ديانة لم يكن لها تأثير سياسي ، بل كانت تتعرض لضغط شديد من الأسلام في الشرق والمسيحية في الغرب ؟
إن المصادر العربية التي استند إليها المؤلف ، وجاءت من ابن فضلان والاصطخري ، وإبن جوقل ، والمسعودي ، والبلخي ، وياقوت الحموي ، وإبن رستان ، والبكري وجرديزي ، أجمعت على نقطتين جوهرتين :
– البدائية الشديدة لقبائل الخزر .
– قيام هذه القبائل بدور قاطع الطريق على طرق التجارة القديمة ، وقيامها أحياناً بدور الوسيط في نقل البضائع من الشرق إلى الغرب وبالعكس ، وهو ما قد أدى إلى ظهور جيش دائم عززته الساحة الاقتصادية للحرب والنهب . فقد عاشت هذه القبائل وضعاً إزاء تجارة وقوة الأمبراطورية الغربية والولة الأسلامية ، ولا غرابة أن تقوم هذه القبائل بدور مزدوج في صراع القوتين .
ففي عام 300- ه – 912 م ، كما يروي المسعودي ، هاجمت القبائل السلافية المدن الإسلامية : جيلان وجورجان وطبرستا غيرها ، وعملت على الذبح والنهب بموافقة مسبقة من ( خاقان ) الخزر . وكان الخزر المسلمون يرغبون في قتال هذه القبائل لكنهم لا يستطيعون ذلك دون موافقة ( الخاقان ) الذي لم يستطع منعهم فأذن لهم ، وقام في نفس الوقت بأبلاغ القبائل السلافية بعزم المسلمين الخزر على قتالهم . فكيف يرى كوستلر رواية المسعودي ؟ . يعترف أولاً أنها رواية متميزة ، تظهر ملك الخزر وغداً خائناً ، لكنها حسب زعمه ، رواية مصبوغة بالتحامل الديني ، رغم كونها تشير إلى ” الاختيارات الصعبة التي كانت تواجه القيادة الخزرية – ص143 – ” وبأمكان أي إنسان ، إذا شاء كما يفعل كوستلر ، أن ينكر قرناً ونصف من الحروب التي خاضها الخزر تارة ضد المسلمين وتارة ضد القبائل السلافية وغيرها ، أو اتخذوا موقعاً كالذي اتخذوه في رواية المسعودي ، مقابل كلمتي ” اخيتارات صعبة ” التي تخفي واقع أن الخزر اليهود – وبحكم مصلحتهم الأقتصادية وموقعهم السياسي – امتهنوا حرفة النهب .
وحين يتقاتي إثنان ،أمام قاطع طريق فليس له إلا أن ينتظر الأسلاب ، وهذا الأمر تكرر عشرات المرات في ” السياسة ” الخزرية ، كما تؤكد المراجع العربية وغيرها .
إن التجارة والسياسة المفروضة من القبائل الخزرية على حركة التجارة وحروب النهب ، أدت فيما أدت اليه ، إلى نمو فئة طفيلية في قمة الحكم القبلي الخزري ، وجدت في اليهودية ما تنشده لجعل عبادة الأصنام الذهبية ديناً رسمياً لها ، حيث ترافق ذلك مع ظهور بعض المدن التي كانت قلاعاً تجارية لليهود تحميها قبائل تمرست على القتال واحترفته ، وهذا يفسر ” إزدواج السلطة ” لدى هذه القبائل وليس في الأمر ما يحير كما يذهب كوستلر . ولعلنا نجد في وقائع تريخية لاحقة ، يوردها المؤلف ذاته ، ما يؤكد هذه الحقيقة وغيرها .
إذ يتحدث المؤلف عن صلة اللغة الألمانية بلغة اليهود ” اليدية ” وكيف انتشرت في بولندا مع بدء عصر النهضة ، فيشير إلى أن الملايين من الألمان الذين هاجروا إلى بولندا وكون قسم منهم أغنياء مثقفين في القرن الخامس عشر ، الأمر الذي جعل اليهود يتكلمون ” اليدية ” القريبة الصلة بالألمانية لأسباب طبقية وليس لأية أسباب اسطورية وانتروبولوجية ولغوية .
فهنا يمكن أن نلحظ رنين الذهب فيما أورده كوستلر ذاته من إحدى كراسات الربانيين اليهود المتداولة في بولندا في القرن السابع عشر وهو دعاء يهودي يقول :
” فلتكن إرادة الله أن تفيض البلاد بالحكمة وأن يتكلم كل اليهود الألمانية – ص – 221 – ” .
ويمكن ترجمة هذا الدعاء إلى ” فلتكن ارادة الله أن تفيض البلاد بالذهب وأن يكون اليهود سادته ومالكيه ” !
وثمة مثل من الأقليةاليهودية في انجلترا في القرن الثالث عشر إذ لم يبلغ عدد اليهود إلا ما يقرب من ( 2500) فقط ، لكن هذا العدد الضئيل سيطر على الحياة الأقتصادية فترة طويلة ، إلى أن طرد من بعض مجالات التجارة عام 1290 م ، اثر تطور ونمو فئة تجارية انجليزية واسعة .فاندفع اليهود نحو استثمار أموالهم في عمليات الأقراض مقابل الربا ، وهكذا فإن شايلوك الواقعي سبق شايلوك شكسبير بمئات الأعوام ، لكنها ليست ميزة قليلة أن يظهر شايلوك الواقعي ، روحاني رباني ، في الدعاوي اليهودية .
فهنا يمكن تملي أن تميز اليهود الأسطوري يطابق واقعا اقتضادياً مميزاً لهم والأحتفاظ بالتميز الأخير يتطلب التشديد على قبيلة الأساطير التلموذية والتوراتية ، وإذا كان ذلك ساريا منذ العصور الوسطى وحتى إقامة الكيان الصهوني ، فليس هناك ما يثبت غياب الحاجة لاستبدال الاساطير العتيقه باساطير على صله وثيقة بالعصر .
وهكذ ا إذا كانت كلمتا تاجر ويهودي تعني شيئا واحدا في انجلترا القرن الرابع العشر، فإن كلمتي آري ويهودي لهما نفس المعنى لدى كوستلر . ومن الكلمتين الاخرتين تتناسل اسطوره بناء الحضاره الغربية من قبل اليهود أولا ، وثانياً ان الصهانيه في فلسطين هم إمتداد لهذه الحضاره بكل ما يعنيه ذلك في الظروف الراهنه .
ويبقى سؤال لا يتعلق بكوستلر ، بل بلجنة الدراسات الفلسطينية فمن حيث المبدأ لا يمكن الزعم أن ترجمة هذا الكتاب خطأ ، بل الامر صحيح وصحيح جداً، لكن قراءة الكتاب بالطريقة التي قدمتها اللجنة . أغلفت الجانب الجوهري في الأمر وهو أن اختراع الاساطير ليس عملية ثابته ، بل تتغيير ، وفقاً للحاجة السياسية للكيان الصهيوني.