بين رواية الكيتش و حلم الحروف
وها هـــو اليوم يتراجع عـــن تســـميته الخاســـرة للثورات العربية بـالربيع العربـــي فـــي روايـــة “الكيتـــش 2011 “ليعلـــن بلا تـــردد أن ما حدث مجرد نفايات، لكن مشكلة الكيتش هو أن تكون نفاية دون أن ترى نفســـك نفاية إلا حـــين يبدأ عمال النظافـــة في جمـــع النفايات. مثل هـــذا الكلام يضعـــه الصافي ســـعيد فـــي مســـتهل روايته الجديـــدة التي صـــدرت قبل أســـابيع، كمعادل تعريفي لتسميته السابقة للربيع العربي.
الكيتش ســـيعرف الناس فـــي تونس أو مصرأو ســـوريا أو ليبيا، كم كانـــت ثوراتهم يتيمة ولقيطة ّومهجنة، أبطالها من الأنانيموس ومن ضحايا العولمة والشـــركات العابرة والإســـلام الفاشـــي.
إن فكـــرة الخلاص الجماعـــي التي يعتنقهـــا الحالمـــون بعالم أكثر عـــدلا كثيرا ما تجعل منا في النهاية مغفلين أو تعساء.
يبدأ الشعور بالكيتش أي الرداءة والنذالة فـــي لحظة التعـــارض بـــين أنفســـنا والعالم، وآنذاك يبدأ الإحساس بأنك خارج السياق.
يعترف الصافـــي أنه لم يفعل في “الكيتش 2011 “ســـوى أن ّطهر نفســـه مـــن الذنب الذي ارتكبه حين أســـرع إلى تســـمية مـــا حدث في تونس ومصر ببدء الربيع العربي.
ويقول “انتشـــرت تلك التسمية وأصبحت تنســـب ّ إلي حتى في ويكيبيديا، والحال، أنني لم أفعل آنذاك ســـوى أن اعتبرت أن انتظاراتي لربيـــع عربي، فـــي الفصل الأخير مـــن كتابي
(خريف العرب) الذي نشـــر فـــي العام 2005 قد تحققـــت آنذاك فـــي ينايـــر 2011 كان الحلف الأطلســـي لـــم يبدأ بعـــد فـــي ّدك طرابلـــس، وكانت تونـــس والقاهـــرة تتعانقان في الحلم والأمل، كان الجميع يعتقد بـــأن ربيع العـــرب فعلا قـــد ّحل، ولكن شـــيئا فشـــيئا بدأنا نشـــعربالاختناق من الكآبة والدماء”.
في إجابة على ســـؤال ويعل لـ”العرب” محتفيا بروايته الجديدة “ ّرحبت بالربيع وكتبـــت عنه طويلا وحلمـــت به وانتظرتـــه طويلا، ولكن حـــين ّ حـــل لـــم تكـــن أزهـــاره إلا من البلاستيك، كان فعلا احتفالا كيتشيا هابطـــا مـــن حيـــث المعنـــى والقيمة والبنـــاء، لقـــد كان الربيـــع احتفاليـــة لليرابيع”.
كان الصافـــي قد وصف في متن الكيتش ما حـــدث بتونس بالقول “إن التونســـيين دخلوا عصـــر الثورة مـــن باب الـــرداءة، حـــين هرب الدكتاتور وظلت الثورة مكدســـة في الشوارع لـــم يتقدم أحـــد لالتقاطهـــا حتى جـــاء ّحفارو القبور؟”.
لكنـــه يرفض اتهامنـــا له بأنه لـــو فاز في انتخابات الرئاســـة التونسية التي ترشح لها وخســـر، هـــل كان ســـيغادر دوره الناقم على الربيع العربي أم يحتفي به بطريقة السياسي في منصبه الجديد.
وقـــال “أنا كاتـــب حاول أن يبنـــي خرائط جديـــدة لما حدث فعلا فـــي الربيع العربي.
تلك رؤية خاصة للكاتب وهي شبيهة بالمعتقد، ولا توجد ّ أي قوة تقنعني اليوم بأن ما حدث ليس كيتشا، أي الرداءة في أبهى تجلياتها”.
يحتـــدم فـــي داخـــل الصافـــي صـــراع بين الأدبي/الفلســـفي وبين السياسي/الخرائطي، لذلـــك يصف صناعتـــه في كتابة هـــذه الرواية أشـــبه بمتنفس كبير “حالمـــا انتهيت من كتاب (جيوبولوتيك الدم: التاريخ الأسير والجغرافيا المتصدعة)، حتى رحت أبحث عن ّ متنفس كبير، شـــعرت بالاختناق، اختناق ّ الدخـــان والرمال والموت وثقل التاريـــخ وأنابيب الغاز وجحفلة الأديـــان، وكان لا ّ بـــد لي من استنشـــاق كمية كبيـــرة من الأوكســـجين، ذلك الأوكســـجين هو روايـــة الكيتـــش التي ركضت مـــن خلالها في خرائـــط عديدة عبـــر مناخات عديـــدة بصحبة أبطال نصفهم واقعيون ونصفهم خياليون .
في “الكيتش”، قال الصافي سعيد أكثر مما قاله في “جيوبولتيك الدم” وربما فهم ّ القراء أن الرواية هي المناخ الأكثر صدقيه لأحداث تحدث أمامنا ولا نعلم كيف تحدث.
كل كتابة هي مانفســـتو سياســـي، أحيانا يكون رديئا سيئا ومتأخرا عن زمانه، وأحيانا يكـــون متقدما ومعلنا عن زمن جديد”، هكذا رد الصافـــي عندما واجهته بســـؤال عن الكيتش بوصفها بيانا سياسيا ّعمن يقف خلف فوضى الربيع العربي وصعود داعش لأحـــداث المعاصـــرة فـــي الكيتـــش تتكئ بعمق تحليلي علـــى التاريخ القريب والبعيد.
فالكاتـــب عندمـــا ّ يســـتهل الرحلة مـــن تونس ومـــا بـــين تركيا وإســـبانيا وبيـــروت وصولا إلى الموصل والعـــودة إلى أنقرة، لا يضيع في الجغرافيا، لأنه لا يغادر التاريخ، فالحوار بين ياســـر عرفات وزعماء الكرملين أو صلاة معمر القذافي أمـــام بريجنيف في الكرملين لا تغادر ســـياقها، بل تأتي كونها مكملا لحدث صناعة داعش وإدارتها من منزل فخم في تركيا كانت تمتلكه عشيقة أتاتورك.
هذه الرواية لا تنتهي، لأن مؤلفها يجعل من الجزائر ملاذا للهاربـــين من الخوف، وبوصلة أبطالها الباقين تتجه من تركيا صوب إسرائيل وكأنهـــا المركز الأخير في صناعة ما يجري وما جرى، من دون أن تخفي الأحداث الإشـــارة إلى دور قطر! وهذا ما تجسده جمل في متن الرواية مثـــل “إســـرائيل لا تريد أن تجعل مـــن العرب يهـــودا بينما إيـــران تريد أن تجعل من ســـنة العرب شـــيعة، ومن شيعة العرب إيرانيين” أو “العبقرية اليهودية مع مال العرب من شـــأنهما أن يصنعا المعجزة، وهـــل ثمة من معجزة بعد خراب البصرة”.
اذا يمكن ان نقول ان الكاتب الصافي السعيد هوا على مقدرة غزيرة من الكتابة والنصر .