في الهيكل المتعالي بين الأنسنة والتعقلن
من هنا؛ تكون بداية القفزة أو الطّفرة الأولى التي قام بها الانسان فوق الانغلاق الفكريّ، والأسوار الّتي صنعها التّعصب الدّينيّ حول العقول، وحرمانها من العمل والتّفكير والبناء والإبداع. .
الأنسنة، بعدّها استراتيجيّة نقديّة، تكرّس كلّ القيّم الّتي تعيد الاعتبار للإنسان؛ كالعقلانيّة، والحرّيّة، والدّيمقراطيّة، والمساواة، …إلخ، بعد أن سلبها منه اللّاهوت أو السّلطة الكهنوتيّة الّتي تنطق وتقرّر باسم الله دائًما،انّ الأنظمة اللّاهوتيّة تستمّر في إهمال المقولات الأنثروبولوجية، والجانب التّاريخي الظّرفيّ من السّياقات الاجتماعيّة والثقافيّة والسّياسيّة، الّتي رُسّخت فيها الحقائق الإلهيّة المعصومة، والمُقدّسة، والعقائديّة، ومن وجهة النّظر هذه يمكن القول: “إنّ الأنظمة اللّاهوتيّة تملأ الوظيفة الإيديولوجيّة نفسها، الّتي يملأها جدار برلين”.
نقول ذلك على الرّغم من أنّها يمكن أن تزوّد الطّوائف الدّينية؛ بل وتزوّدها فعلًا من بعض النّواحي بثقافة رمزيّة مخصّبة، ومقويّة، ومقتدرة بالطّبع، إنّ الجدران تظلّ صلبة وقائمة بين الطّوائف على أنّها الحجاب الحاجز؛ لأنّنا لم نبلور بعد الاستراتيجيّات المعرفيّة المناسبة من أجل هدمها، ثمّ من أجل استكشاف الفضاء الأنثروبولوجيّ، والثّقافيّ، والفلسفيّ الحقيقيّ، أقصد فضاء التّفسير للثّقافات والتّراثات، الّذي يفسّر لنا جميع الأنظمة الرّمزيّة للتّصور، سواء أكانت موروثة عن الماضي، أو حاضرة، أو مستقبليّة.
لكي نتحرّر من الهيمنة اللاهوتيّة؛ لا بدّ من تحقيق نوع عالٍ من الوعي الأنثروبولوجيّ، الّذي يُخرج العقل من التّفكير داخل السّياج الدّوغمائيّ، إلى التّفكير على مستوى أوسع بكثير؛ أي على مستوى مصالح الإنسان – أيّ إنسان كان- وفي كلّ مكان، كما يعلّمنا كيفية التّعامل مع الثّقافات الأخرى بروح متفتّحة متفهّمة، وضرورة تفضيل المعنى على القوّة أو السّلطة، ثم تفضيل السّلم على العنف، والمعرفة المنيرة على الجهل المؤسّس أو المؤسّساتي.
للانسة عدة انواع منها أنسنة السياسي و: فكّ الارتباط بين البشريّ والمقدّس، أو بين السّلطة والسّيادة العليا في أشكال التّنظيم البشريّ المختلفة، وردّ الفاعليّة فيها إلى الإنسان.
فالإنسان هو الحاكم وهو المحكوم، أي هو الّذي يحكم ويسيّر وينظّم، ولا يوجد طرف آخر؛ أي التّوقف عن التّفكير في شؤون الدّولة من منطلقات ميتافيزيقيّة، والتّعامل مع الظاهرة السّياسيّة على أنّها ظاهرة واقعيّة، بهدف فهمها، واستخراج القواعد العامّة الّتي تحكم الفعل السّياسيّ ، فالظّاهرة السّياسيّة يمكن فهمها بشكل علميّ وموضوعيّ، “من حيث هي: ظاهرة اجتماعيّة لها محدّداتها وتجلّياتها، لابد من البحث في محاولة بيان التّمفصل بين الدّنيويّ البشريّ والإلهي المقدّس، في فضاء اجتماعيّ محدّد: هو فضاء جماعة الحكّام وجماعة المحكومين، وهو فضاء هرمي تراتبيّ يتشكّل من الرّئيس والمرؤوس، وهذا التّمفصل بين الدّنيويّ البشريّ والإلهيّ المقدّس، يتحدد في عدّة ثنائيّات، هي: المجال الأخلاقيّ/ المجال القانونيّ، الرّوحيّ /الزّمنيّ، السّيادة العليا / السّلطة، المشروعيّة / الدّولة، العامل الدّينيّ/ العامل السّياسيّ.
أيضا أنسنة التّاريخ: معناه رفض أيّ تصوّر مسبق لسير التّاريخ؛ لأنّ التّاريخ هو نتاج فعاليّة الإنسان الحرّة؛ “فالأحداث وحدها، أو الوقائع، أو الأشخاص الّذين وُجدوا حقيقة، الّذين دلّت على وجودهم الأحداث، ووثائق صحيحة، يمكن أن يقبلوا كمادّة للتّاريخ الحقيقيّ الفعليّ، وهذا يعني؛ استبعاد كلّ العقائد والتّصورات الجماعيّة الّتي تحرّك المخيال الاجتماعيّ أو تنشطّه من ساحة علم التّاريخ، نقول ذلك، مع أنّ هذه العقائد والتّصورات: هي قوى حاسمة تغذّي الدّينامكيّة التّاريخيّة وتدعمها.
فالدّعوة إلى أنسنة التّاريخ – إذن – “تفرض إعادة دراسة الرّوابط بين الدّين والمجتمع؛ أي العلاقة الجدليّة بين المتعالي والتّاريخي، وكيفية تأثير الدّين على قدر المجتمعات، وكيفيّة تأثير المجتمعات على تجسيد الدّين في التّاريخ” , نؤكد على إعادة قراءة التّاريخ وأنسنته – وندعوا إلى فهم “كيفيّة اختراق الدّين لوسط اجتماعيّ ما ومدى تمثّله له، أو مدى فشله أو نجاحه ثمّ العكس؛ أي مدى تأثير هذا الوسط على الدّين الرّسميّ الدّاخل، وكيف يعدّله، ويحوّر فيه، ويغيّره.