من المجموعة القصصية “الفصول الخمسة :”مــردومـة”
برد قارس أرعن لا يفتأ يقضّ مضجعه مع شروع الحاج “الباهي بالرّابح”، في تنظيف جانب من بطحاء الحومة، قبل أن يبدأ بجلب خشب الأشجار وبعض قطع اللّوح، وقد قسّمت إلى أجزاء متساوية الأحجام، يأتي بها، على مراحل، على نقّالة ثمّ يطرحها أرضا على شكل أكوام صغيرة.
وكم سنحت له الفرصة أن يرى بأمّ عينيه “الحاج” وهو يهوي بفأسه على جذوع الأشجار الكبيرة التي تقادمت وشاخت فلم تعد تزهر ولا تثمر، كان يتابعه من مكان من ينظر دون أن يلفت إليه الإنتباه، فكان يلاحظ أنّ “الحاج” يختار، بدقّة، أشجاره كما يرصد دقّته في مواضع تلك الضربات المسترسلة التي يسدّدها للجذوع بفأسه، ولا يختلف الأمر بالنسبة للضربات التي يكيلها بعد ذلك بقادومه للجذوع الهاوية والأغصان المنطرحة، ولم يفوّت فرصة معرفة استخداماته لبعض أدوات القطع الأخرى.
وما إن ينتهي من تكديس الخشب على مساحة واسعة من البطحاء حتّى يبدأ في تكويم ما جلبه بترتيب وتنظيم، فيبسط الأضخم حجما ويبني أخشابه، في الوهلة الأولى، على شكل هرميّ قبل أن يغيّر طريقة التّكديس ليحصل في النهاية على شكل يضاهي شطر الكرة، تاركا تجويفا يربط سطح الرّكام بمركزه بعدها يضع عليها شيئا من الأغصان الصّغيرة الجافّة.
بعد ذلك يأتي “الحاج” ببعض أغصان الشّجر الجافّة، ينتقيها ويتركها جانبا لتكون آخر من يستعمله، فيدخلها في تجويف الجذوع المركومة، بعد أن يسدّ كلّ منافذها بأتربة وألواح وأغصان وفضلات أغنام وأبقار، ثمّ يأتي بقدّاحة وأوراق كرّاس أو ورق كيس، فيمد إلى إشعال النّار في الأغصان التي حشرها للتوّ في قلب الرّكام، عندها تبدأ ألسنة اللّهب بأكل الأوراق لتنتقل، سريعا، إلى التهام الأغصان اليابسة، وقتها لم تعد تسمع إلاّ طقطقة وخشخشة.
اعتاد أن يقترب من الشّيخ السّبعيني، متوسّط القامة، قويّ البنية رغم سنّه المتقدمة، يفعل ذلك دون أن يناديه، ولكن ما إن يصبح قاب قوسين أو أدنى من أكوام الأخشاب واللوح حتّى يبتسم الشيخ ويتركه بجواره يقرّب منه هذا الجذع الذي قدر على حمله، ويجاهد في تقليب ذاك الذي استعصى عليه رفعه، وبين الحين والآخر يطلب منه الشيخ مدّه بأداة من الأدوات.
تعوّد في كلّ موسم من مواسم الشّتاء أن يتطوّع، دون أبناء حيّه وجيرانه، لمعاونة “الحاج”، ويساعده بما يقدر عليه، يفعل ذلك مستغلاّ عطلة الشتاء، والإنصراف لأيّام عن دروس المدرسة، فيقف ما شاء له الوقوف، ويقعد ما قدّر له القعود على سطح صخرة انغرست في أرض البطحاء متعالية عن بعض الصخور والحجارة المتناثرة التي تحفّها من كلّ جانب، تهاجمه بين الفينة والأخرى موجة هواء بارد يقشعرّ لها بدنه الرّاجف بطبعه، فلا يجد بدّا من فرك يديه، نافخا في كفيّه، وهكذا حاله إلى أن يغادر كومة الجذوع المشتعلة، لحاجة بشريّة قاهرة أو لإدراك شيء من طعام الغداء أو العشاء، المستورة بحجاب عن الأعين المترصّدة، في اتجاه بيتهم القريب، ليعود إلى صخرته على عجل.
يذود عن “الكومة” رسلات الكلاب السّائبة ويبعد عنها القطط المتسكّعة حتّى لا تنبشها، وينهى الصّغار عن الإقتراب منها ومحاولة نخرها بعصيّ يجلبونها، وكثيرا ما فاجأ بعضهم بصدد تعريتها لكشف باطنها، وكشف بعض من كانوا يقذفونها بالحجارة من أماكن خافية، وفيهم من حصل ولحق به يسكب عليها الماء يرنو إطفاءها، ويتفكّر كثيرا من الأحداث والمشاكل التي تعوّد حصولها من بعض المشاكسين، ومن يصفهم بـ “الفاسدين”.
يمضي ما يربو عن أسبوع من عطلته، وهو يتابع عمليّة نضج الجذور وهي تحترق بمفعول النّار التي تأكلها تحت الرّكام، تنقضي الساعات، آناء الليل وأطراف النّهار، وعيناه تصارعان طيران الأتربة بفعل الرّيح المسخّرة، وتقاومان الأدخنة المتصاعدة على مدار السّاعة من قبل الكومة نصف الدائريّة المكوّمة أمامه، غير بعيد.
عندما يستكمل “الحاج” الأجل المسمّى، يعلمه بأن يبكّر في المجيء قبل أن تطلع الشّمس من مشرقها ويطلب منه أن يملأ برميلا حديديّا ببضع أسطل من ماء حضيرة البناء القريبة، برميل يحضره الشّيخ مساء ذلك اليوم، فلا يجد بدّا من أن يأتمر بأوامر ‘الحاج”، ولا يذكر أنّه خالفها، يجد وفي الغد يجد الشيخ قد سبقه، كعادته في كلّ مرّة، إلى مكان الكومة رغم أنّه ينوي في كلّ شتاء أن يسبقه فما يريعه إلاّ أنّه قد حضر قبله.
يجده منهمكا في إزاحة السّاتر، من الأتربة وفضلات الدواب، فيكشف عن لهب النّار وفيح حرّها، ويكتشف أنّ الجذوع تحولّت إلى فحم وجمر، فلا تبرح عيناه تتابعان، باهتمام منقطع النّظير، “الحاج” وهو يجذب بعمود حديدي باطن الرّكام، فيتساقط الفحم الملتهب على جنبات الرّكام ثمّ يأخذ السّطل، ويبدأ في رشّ خبء الكومة المبسوط على الأرضيّة بالماء لتصعد الأدخنة كثيفة إلى الأعلى فتغطّي المكان وتدمع العيون.
لا ينشطر النّهار إلاّ وقد أنهيا مهمّتهما بسلام، يجلس على الصّخرة التي يلازمها، هو، حين مداومته على حراسة “الكومة”، بعدها يهمّ بمساعدة الحاج في نقل أكياس الفحم، ويعاونه على تنظيف بقايا الرّكام، ويلقيان بما لم يصلح من ركام في أحد مصبّات النفايات، حتّى إذا أتمّا عملهما، أوقف “الحاج” النقّالة أمام باب حوش داره الكبيرة، وقتها يبتسم وهو يخاطبه، كما درج على مخاطبته في الزمان والمكان نفسه من كلّ شتاء:
– ” مردومتنا كمّلوها الحطّابة، وعام السّنا كيف كلّ عام جاتنا صابة.. أيّا سي الأمين.. اختار الشّكارة إلّي تحبّها”.
يطأطأ رأسه مبديا خجلا من أخذ الكيس بنفسه، فلا يجد “الحاج” بدّا من اختيار أفضل الأكياس ويضعها في النقّالة، ويأمره بإيصالها إلى بيت والديه وإرجاع النقّالة من حيث جاء بها أوّل مرّة.
يفتح من يفتح من أهل البيت باب الدّار، شقيقه أو أخته أو والده، فيدلف إلى الحوش وهو يسحب مع من فتح الباب الكيس الضّخم، وما إن يبلغ النّبأ والدته حتّى تطلق زغرودة يتردّد صداها بين جدان الدّار، وتسرع نحوه فتضمّه وتشبعه تقبيلا، ولا تفتأ تثني عليه حتّى يسكتها أحد الحاضرين.
تركن والدته الكيس في مكانه المعتاد ثمّ تنطلق، للتوّ، في التصرّف في مخزونه بحكمة وحنكة ، فيتدفأ أهل الدّار متحلّقين حول الكانون طيلة أشهر الشتاء، وعليه يطبخ الشّاي وتشوى السّلطة، وفي بعض الأحيان السّمك الذي يجلبه والده في مناسبات قليلة، وتترك ما قضت أن يترك لأيّام عيد الإضحى، وتبقي شيئا من فحم، صغير حجمه مصقولة قطعه، تسميّه “فحم البخور” تستعمله في المناسبات والأفراح، ولا ينتهي الأمر عند ذلك بل ينتفع شقيقه الأكبر بشيء من الفحم ينتقيه، قطعة قطعة، ويستعمله في تدخين “الشيشة” (النّارجيلة).