الشباب التونسي وظاهرة التطرف والغلو :قراءة إستشرافية
ومن المؤسسات التي لعبت دورا مهما وحيويا بهذا الخصوص جامع الزيتونة المعمور وفروعه العريقة والمتجذرة عبر التاريخ والتي كانت لها اشعاع في مشارق الأرض ومغاربها، الى جانب المدارس والمؤسسات الخيرية التابعة للزوايا والطرق الصوفية.. حيث كان دور ها بارزا في نشر التعليم والمعرفة والمحافظة على الهوية الحضارة العربية الإسلامية بتونس وباقي الدول المغاربية كالجزائر وليبيا. فعملت على تحصين الشباب التونسي والمغاربي وربطه بهويته الوطنية فضلا عن وقايته من التطرف.. وتوج كل ذلك الجهد لمتنوع بإسترجاع الاستقلال التونسي في مارس 1956م.
واعتمدت الدولة الوطنية القطرية التونسية إجراءات وقرارات عدة -عجزت فرنسا عن اتخاذها خلال فترة احتلالها للبلاد التونسية- ساهمت في نمو التطرف وتفشي ظاهرة الغلو والعنف للأسف.
ضمن هذا المنظور وفي سياق التعرف على هذه الظاهرة الغريبة وغير النافعة، بل المهددة لاستقرا وسلامة المجتمع التونسي؛ تأتي هذه المقالة للتعرف على خلفية ظهورها وتناميها لدى الشباب التونسي ؟ أسباب اعتماد السلطات التونسية لاجراءات اقصائية متطرف ولدت تطرفا مضادا ؟ النتائج والاثار المترتب عن نمو الظاهر وتهديدها لسلامة الأفراد والمجتمع ؟ سبل مقاومتها والإجراءات أو وصفة العلاج الممكنة لتخطي أثارها و التخلص منها ؟
سنعتمد منهجي التقصي والتحليل في تتبع الظاهرة ورصد نتائجها وأثارها الخطيرة على الشباب التونسي. مستفيدين من الدراسات والابحاث العلمية والاجتماعية التي تناولت الموضوع والنتائج المتوصل اليها لعلاج الظاهرة ووقاية الشباب منها.
أولا- الجمهورية الأولى: دولة الاستقلال و الشباب التونسي (1956- 2010)م
1- حكم الرئيس الحبيب بورقيبة (1956-1987)م و الشباب التونسي.
ظاهرة التطرف والغلو والارهاب،دخيلة على المجتمع والشباب التونسي، وتعود جذورها الى ادارة الاحتلال الفرنسي لتونس ولدولة الاستقلال واختلاف حول مشروع السياسي وهوية الدولة الجديدة والمتمثلة في مشروع الرئيس الحبيب بورقيبة التحديثي-العلماني-اللائيكي؛ ومشروع العروبي-الزيتوني-طرقي بزعامة الأستاذ صالح بن يوسف الامين العام الحزب الحر الدستوري الجديد وما عرف (بالامانة العامة) وتولى الرئيس الحبيب بورقيبة السلطة من (1956-1987) م،بعد تغلبه بدعم من الحكومة الفرنسية، واتخذ عدة إجراءات وقرارات ضد الهوية والتراث العربي الإسلامي، وهو مالم يعهده المجتمع التونسي المحافظ على اعتبار الأمر دخيلا؛ جيث عمل على محاربته ونضال من اجله خلال فترة الاحتلال الفرنسي،وتمثلت في غلق مؤسسة جامع الزيتونة وفروعها وتفكيك التعليم الديني،وحل مؤسسات الزوايا والطرق الصوفية ،وإلغاء الأوقاف، ومحاربة التدين، واستيراد مشاريع وأنظمة سياسية من الغرب بشقيها (الرأسمالي والاشتراكي- الشيوعي) ،وإسقاطها على المجتمع التونسي دون تكييفها ومزاوجتها مع الهوية ،والاستبداد بالحكم بالرئاسة مدى الحياة ماعرف (بالجمهورية- الملكية) ،والإقصاء والتهميش بين الحهات ،وكل هذا أدى إلى التقوقع والفشل والتصحر السياسي والثقافي والديني ،وقاومت النخبة المتخرجة من الزيتونة والصادقية و وانظم اليها الاستاذ محمد مزالي عند تولى المسؤولية وهذه السياسة، وحصنت الشباب من التطرف والغلو ، وأخرت ظاهرة التطرف الى حين..
لكن أثار ونتائج هذه القرارات ستظهر بزوال ورحيل هذه النخبة الوطنية، خلال فترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي (1987-2010)م .
2 – حكم الرئيس زين العابدين بن علي(1987-2010)م و الشباب التونسي.
تولى زين العابدين بن علي الحكم إثر انقلاب الأبيض على الرئيس الحبيب بورقيبة، بعد عجزه عن تسيير دواليب الدولة بسب كبر سنه ومرضه من (1987-2010) ، وهو مواصلة لنظام السابق، وفي عهده إزداد الوضع أكثر سوءا، وأصبحت الساحة التونسية خالية من العلماء والمفكرين ورجال الدين، وإتباع سياسة أكثر تطرف وغلو وإستبداد وإقصاء وتهميش ورفض الأخر، واتخذ عدة اجراءات من بينها اقصاء الدساترة من سلطة القرار السياسي وتجفيف منابع الهوية العربية الإسلامية من البرامج التربوية والتعليمية ،منذ تولي الإستاذ محمد الشرفي الاشراف على وزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي، وتسميتها بوزارة العلوم وتغلغل التيار الفرنكفوني اليساري المتطرف في المؤسسات الجامعية والتربوية.
وقد حاول الأستاذ أحمد فريعة اصلاح الاوضاع بتقديم مشروع اصلاحي عندما أشرف على وزارة العلوم ولكن لم يكتب له النجاح بإبعاده عن الاشراف على الوزارة وانشرت كذلك ثقافة ما عرف” بمهرجانات الفوكلورية والرياضة “واليانصيب “” PROMO SPORT“؛ مما أدى إلى تخريج دفعات متطرفة من اليمين واليسار، وأصبحت عرضة للاستقطاب والتجنيد من قبل قوى متطرفة، مما أدى إلى تنامي مشاعر الكراهية والرفض، وبقيت مكبوتة في انتظار تفجيرها، بحكم ضعف مستواها التعليمي والديني والثقافي، وأزداد الوضع سوءا ورداءة بانتشار الفكر المتطرف والغلو، بسبب التصحر السياسي والثقافي والتعليمي والديني، الذي عاشته البلاد التونسية ،وعرفت عدة ظواهر (مثل عبادة الشيطان والتشيع والتمسح والالحاد…) وأصبحت الأسرة التونسية تعيش أسوأ حالاتها خاصة لما تصدرت تونس أعلى نسب الطلاق في العالم العربي ما تسب في تفكك الاسري وضياع الشباب .
عرفت البلاد التونسية نتجة هذه السياسة،حراك حزبي وجمعوي لمقاومة الاستبداد وسياسة الرئيس زين العابدين بن علي ، كل هذا أدى إلى إندلاع انتفاضات في عدة مناطق تونسية ( المناجم والمتلوي، وبنقردان والقصرين…) وأنتهت بثورة الكرامة في جانفي 2011م،و هروب الرئيس زين العابدين بن علي وسقوط نظامه.
وما يمكن إستنتاجه بإن الشباب التونسي كان حقل لتجارب في السياسة العربية و(العالمية) وإملاءات الصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمات الدولية وعلى رئسها المنظمة الفرنكفونية ومما ترتب عليه فقدان القرار الساسي والتدخل في المنظومة التربوية وفشل الدولة الوطنية القطرية التونسية والجمهورية الأولى من (1956-2010)م،في تأطير الشباب والاستثمار في المستقبل ونتهت هذه المرحلة بتأسيس الجمهورية الثانية .
ثانيا- الجمهورية التونسية الثانية:الثورة التونسية و الشباب.(2011- الى اليوم)
عرفت البلاد التونسية الانسداد الديمقراطي والتصحر السياسي والثقافي والديني ،لأكثر من نصف قرن، وقد اندلعت عدة انتفاضات وانتهت بثورة الكرامة التونسية في جانفى2011، والتي جاءت كرد فعل على تراكمات تاريخية من الاستبداد والفساد والمحسوبية والإقصاء والتهميش، والمطالبة بالتنمية والديمقراطية والشغل والحوكمة الرشيدة، بتأسيس الجمهورية الثانية ،وبتعاقب عدة حكومات (محمد الغنوشي والباجي القايد السبسي وحمادي الجبالي وعلي العريض والمهدي جمعة و الحبيب الصيد و يوسف الشاهد)، والإجهاض على المشروع الديمقراطي، اخترقت وحرفت الثورات والانتفاضات العربية من (2011-2012)،عن مسارها وأهدافها النبيلة وتمت عسكرتها، من قوى داخلية وخارجية، وتحويلها إلى دول فاشلة والى فتن وحروب أهلية، واستخدامت سياسة العصا والجزرة، على طريقة “من ليس معنا فهو ضدنا” ووجدت المخابرات العربية وخاصة الغربية والامريكية ضالتها، بتسويق أطروحة المستشرقين بشأن عدم ملاءمة الديمقراطية للشعوب والثقافة العربية و اعتبرت الديمقراطية خطا أحمر لايسمح بها ولايمكن تطبيقها على الشعوب العربية والاسلامية،
وهي تعتبرها منطقة انقلابات عسكرية ( التأييد والمشاركة في الانقلاب العسكري في كل من مصر وتركيا) وتجريب الأسلحة والمنظومات التعليمية، من أجل تخريب الانتقال الديمقراطي ، وسحق رموزه . وقامت بترويج خطاب الفوضى وعدم الاستقرار وساندتها شبكات التواصل الاجتماعي والجمعيات المشبوهة، في البلاد التونسية -العربية، وفي ظل فشل الدولة التونسية في الاستجابة للمطالب الاجتماعية، اتسع نطاقها وارتفعت مطالبها، ووجدت ضالتها وتربتها الخصبة لتطبيق أجندتها، بالتغرير بالشباب التونسي الذي كان ضحية منظومة سياسية وتعليمية واستبدادية، وتجنيده وتسفيره إلى ساحات القتال في كل من سوريا والعراق وليبيا، للجهاد في الظاهر ولكن في الباطن لتطبيق مشاريع لاناقة له فيها ولاجمل،مثل مشروع الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد لوزيرة الخارجية الامريكية السابقة كونداليزة رايس، وبعد تمرد تنظيم “القاعدة”، تأسست منظمة ارهابية جديدة “داعش” تحت اشراف مخابراتي ومنحها اسم “الدولة الاسلامية” لتشويه الاسلام والمسلمين وربطه بالارهاب والاجرام والسبي والنساء، ولوضع حد لانتشار الاسلام في اوروبا والعالم، وقد وصل عدد التونسيين في المناطق الساخنة والحروب إلى أكثر من 6000 شاب وشابة.
شهدت البلاد التونسية ميلاد نشاط مكثف للحركات السلفية الجهادية، ومن بينها التنظيم المتطرف “أنصار الشريعة”، التي تغلغلت في الأحياء الفقيرة المحيطة بالعاصمة وفي المناطق الداخلية المُهمّشة، وأفلحت ونجحت في استقطاب عدد من الشباب المعطل والمهمش ، الذي يشكو هشاشة نفسية واجتماعية، وقد وظفته في أحداث العنف.
ولمعالجة والتصدي لهذه الظاهرة ، اتخذت الحكومة التونسية منذ سنة 2012 عدة قرارات وإجراءات، للحد من تسفير الشباب التونسي إلى ساحات القتال؛ من قبيل منع الشباب التي تقل اعمارهم عن 35 سنة، وكذلك الفتيات – الا بترخيص من الولي- من السفر إلى الخارج. ومن أجل انجاز المصالحة مع الشباب التونسي وفتح صفحة جديدة.. منح الدستور الجديد –الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية التأسيسية يوم 26 جانفي 2014بأغلبية الثلثين- عدة امتيازات ومكتسبات وحقوق باعتبارهم أسس المجتمع وعماده، ومستقبل البلاد و أمانها وازدهارها .
في هذا الاطار صرح وزير الداخلية التونسي الهادي المجدوب السابق لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية أن:”السلطات الأمنية منعت منذ 2012 أكثر من 27 ألفا من الشبان التونسيين المشتبه بهم من السفر إلى مناطق النزاعات المسلحة في الخارج.”
واعتبر منع المشتبه بهم من السفر من أهم الحلول التي اعتمدتها الداخلية التونسية للحد من سفر الشباب إلى بؤر التوتر والتحاقهم بالتنظيمات الإرهابية. وقد تمكنت أجهزة الأمن التونسي في سنة 2016 من تفكيك 245 خلية تسفير للشباب إلى بؤر التوتر خارج تونس، بينما كان العدد في حدود 100 خلية في سنة 2013، كما أوقف الأمن 517 عنصرا متورطا في هذه الخلايا.
و في الاطار نفسه للأسف أصبح الإرهاب شماعة لتخويف الدول والشعوب ولتصفية الحسابات بين بارونات الفساد والمافيا والمخابرات الأجنبية في تونس؛ التى اتهمت باغتيال كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي للإجهاز على الثورة والمسار الديمقراطي ( انظر في هذا الاطار تصريح الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند بأن المخابرات الفرنسيىة قامت بعدة عمليات للحفاظ على المصالح الفرنسية) ، وكذلك الأمر بشأن عملتي باردو وسوسة..
والكثير من العمليات الإرهابية التى حدثت بتونس.. والتي تحتمل العديد من القراءات والتأويلات (تحالف تيار الثورة المضادة والارهاب) واستخدامت سياسة العصا والجزرة، على طريقة “من ليس معنا فهو ضدنا” .
جاءت في مجملها كعمل منسق وممنهج لوأد المسار الديمقراطي وتدمير الاقتصاد التونسي وخاصة القطاع السياحي، وبث الدعاية المغرضة لتشويه سمعة الشباب التونسي، واتهامه بالارهاب والاجرام. وكذلك الفتاة التونسية التى اتهمت في شرفها من خلال الترويج الاعلامي لموضوع “جهاد النكاج” ( لاوجود له في الكتابات الإسلامية )، ولضرب وتشويه المفهوم السامي للجهاد بكونه دفاع عن كرامة ضد الأعداء الخارجيين. وقد سعت الحكومة التونسية لاستدراك الوضع خاصة ما تعلق منه بالتكفل بمشكلة الشباب ومعالجة التطرف؛ عبر أليات ادماج هذه الفئة. واقترحت على مجلس الشعب التونسي قانون التوبة، لمعالجة قضية الارهاب وعودة التونسين من المناطق الساخنة.. والذي مازال يراوح مكانه في ظل رفضه من قبل بعض الجمعيات والنقابات ذات التوجه العلماني اليساري خاصة. وضمن هذا ننوه وندعو للاستفادة من تجارب الأشقاء الجزائريين والمغاربة في بناء المصالحة الوطنية.
في نهاية هذا البحث نبدي الملاحظة بتعقد وتشبك أسباب ظاهرة التطرف لدى الشباب التونسي، ووجود أسباب داخلية وخارجية ساهمت في استفحال الظاهرة تطرفا وارهابا.. ونقترح لتفكيك الظاهرة وتجاوزها دخل المجتمع التونسي مايلي:
إحداث مراجعة شاملة للمسار السياسي والمجتمعي وتقييمها،والاجتهاد في استخلاص النتائج والدروس الممكنة لإعداد استراتيجية ضمن قراءة إستشرافية لواقع المجتمع والراهن من حولنا ثم الشروع في خريطة طريق واضحة للعمل، بتقديم الحلول المتاحة ضمن رؤية علمية متكاملة لا مجزأة للظاهرة.
ونعتقد أن في مقدم خطوات ذلك، العمل على إحياء القيم المجتمعية التونسية الأصيلة؛ تلك التي تقوم على نبذ العنف وتحيي قيم التسامح والتعايش المشترك بين مكوناته وفئاته وإعادة الاعتبار للمؤسسات الدينية المتمثلة في الزوايا والطرق الصوفية (لكن شريطة تحديثها لتلائم العصر ونزع كل ما ألصق بها من شوائب وإنحرافات) وجامعة الزيتونة.
لنشر الاسلام المعتدل المتصالح مع عصره و بيئته واصلاح وزارة الشؤون الدينية وإحداث المعهد العالي لتكوين الأيمة والوعاظ ومؤسسة الاوقاف والاحباس ومؤسسة الزكاة وادخالها في الدورة الاقتصادية والدزاسة والتعمق في مدرسة الفقه المقاصدي للامام الشاطبي اﻷندلسي وقد كتب فيه كل من الشيخ الفاضل محمد الطاهر بن عاشور و الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وهذا الفقه ضرورة تعميقه وتطويره يمكن أن يكون مدخلا للحداثة العربية الاسلامية..
ثم الشروع في اعداد خطة وبرنامج لإصلاح المنظومة التربوية باعتماد معايير الجودة في المناهج والبرامج التعليمية، ومصالحتها مع الهوية مع ضمن المزاوجة بين الحداثة والأصالة العربية الإسلامية.
و اخيرا وليس آخرا العمل على تجذير الفكر والممارسة الديمقراطية ومبدأ التداول السلمي على السلطة، وعلى كفالة حقوق الإنسان، واعتماد الحوكمة الرشيدة، وتعزيز تحقيق العدالة بين الجهات ودعم مكافحة الفساد والتخلص من المحسوبية والرشوة… بالموازاة مع ذلك العمل على تشجيع الشباب على الاندماج الاجتماعي والتفاعل مع مشكلته ايجابا من خلال انخراطه وتأطيره في العمل الجمعوي والنقابي والنشاط الحزبي السياسي.. وتبني الحوار معهم. ولنا في تجربة المصالحة الجزائرية والمغربية خير حافز ودليل لتعزيز هذا التوجه لصالح شبابنا، و السعي لخلق وتوفير مناصب الشغل ودفع مناخ الاستثمار لصالح الشباب ومنحهم الاولوية؛ سعيا لكسبهم واندماجهم ومساهمتهم في بناء المستقبل الواعد لهم ولمجتمعهم التونسي للوصول بهم الى بناء دولة المواطنة .