بين سيطرة ” اللوبيات ” السياسية…و ضغط الأذرع المالية… و الرغبة في التحرّر… هل حقق الاعلام التونسي إستقلاليته ؟
احتّلت تونس للسنة الثانية على التوالي المرتبة 72 عالميا في ترتيب المؤشر السنوي لسنة 2020 لحريّة الصحافة و التعبير لتكون بذلك في صدارة ترتيب الدول العربية تبعا للتصنيف الذي شمل 180 بلدا و الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود…” و رغم الاشادة بما وصلت اليه تونس في سلّم حريّة الكلمة ان نفس التقرير لم يخف حقيقة تدهور المناخ الاعلامي في تونس و الخطر المحدق بدائرة الاستقلالية .
مختلف هذه الاشكاليات الحارقة و المتمحورة حول حريّة الإعلامي سلطنا عليها الضوء رصدنا في خضمها أراء و مواقف اهل الاختصاص لتبيان مدى تحقيق الاعلام استقلاليته من عدمه…
قال نقيب الصحفيين التونسيين السابق ناجي البغوري يرى أنّه لا يمكن التطرّق الى مسألة استقلالية الاعلام أصلا في ظلّ عدم وجود استقلالية مالية لا سيما لوسائل الاعلام الخاصة باعتبارها مؤسسات هشّة و لا توجد معالم واضحة لمصادر تمويلها الامر الذي جعلها لا تمتلك نموذجا اقتصاديا واضحا و شفافا ممّا نجم عنه دخولها في ازمة مالية و اقتصادية خانقة لا تمكّنها من التواصل و من الاستمرارية .
لكن ما يلاحظ في كل مرّة هو انّه مسألة التمويل مبنية حسب الظروف و على خلفية الحاجة. و بالتأمل في وضعية اغلب المؤسسات الخاصة فإنه لا يمكن معرفة شركائها ومصادر تمويلها و حتّى و ان اعلنت عن ذلك فهي قلّة قليلة تتعامل بكل شفافية.
و توسّع البغوري موضّحا انه في اغلب المؤسسات الاعلامية ليس هناك سياسة تحريرية واضحة المعالم ليتبين في نهاية المطاف ان ذك مرتبط بجهات التمويل و او بالأحرى قوى الشدّ الى الوراء و المتدّخلة بشكل ظاهر أو خفي في الخط التحريري… و في هذا المستوى نحن نتحدث عن المال السياسي الفاسد الذي يضّخ لمؤسسات اعلامية معينة دون غيرها و لا يخفى على احد أن الاعلام ما انفك يجلب انتباه قوى السياسية و الاقتصادية أو ما يعبّر عنه ” باللّوبيات ” التي لا تفقه سوى منطق الإملاءات السياسية.
قال نقيب الصحفيين التونسيين السابق ان بعض الأحزاب السياسية تمتلك قنوات و أحزاب أخرى تسيطر على بعض الوسائل الاعلامية و ذلك لضمان صعود رئيس الحزب الذي يمثلها و عاد جّدا ان نراها تغيّر في خطها التحريري من الاتجاه ” الليبيرالي ” الى الاتجاه “اليميني ” و ذلك وفق الاجندات السياسية ، و استشهد محدّثنا بقناة نسمة التي انتهجن نفس المنهج السالف ذكره و سخرّت منابرها لخدمة صاحب القناة و المرّشح السابق الانتخابات الرئاسية نبيل القروي.
وفي هذه الحالة عوض ان يكون المشهد الاعلامي متعدد و محاكيا لكل الاطياف بمختلف مرجاعياتها السياسية فإنّه يتحول
الى فضاء للصراع بل احتّد ذلك في اكثر من مناسبة و ووصل الى تمرير مشاهد العنف و الانحطاط الاخلاقي . و ذلك ما خلق انطباعا سيئا لدى المتلّقي خاصة أثناء فترة الانتخابات في ضرب الحياة الديمقراطية و التنوع و الاختلاف و الذي يكون عادة في سقف البرامج السياسية المعلنة لأغلب المرشحين السياسيين.
لا بد من إستراتيجية شاملة
و من زاوية اخرى يرى ناجي البغوري أنّه من الصعب الحديث عن الاستقلالية في ظّل وجود مناخ مادي صعب و هشّ تعاني منه اغلب المؤسسات الاعلامية في الوقت الذي يطالب فيه الجمهور بصحافة الجودة او صحافة العمق التي تحتاج في الغالب الى تكلفة و دعم مهم حتى يتمكن الصحفي من تقديم مادّة اعلامية محترمة بحجم الانتظارات التي فرضها عصر الرقمنة. و نظرا لعدم توفير الظروف و الارضية المناسبة للصحفي فإنّه سيقدم مادّة تفتقر للجودة على غرار الماّدة الاخبارية التي أصبحت تنقل بحذافيرها من وسيلة اعلامية الى اخرى دون بذال جهد للتثبّت و التحرّي حول مصدر المعلومة و مدى صحتّها ليكون بذلك الهدف هو “الـBuz” فيكون بذلك الصحفي في تبعية و نقل اعمى للخبر للخبر. رغم ان الاعلام سواء كان خاص او عمومي فهو يقدّم خدمة ترفيهية ولا بدّ ان تتّسم بالجودة و تراعى فيها القيم المهنية و الاخلاقية و هنا يمكن الحديث عن معنى الاستقلالية
و انتهى البغوري الى ان الحال سيبقى على ما هو عليه بل سيزداد سوءا في حالة عدم وجود تحرّك فعلي للدولة للإنقاذ الاعلام و ضمان استقلاليته وفق استراتيجية شاملة تدعمها جميع الاطراف المتداخلة …استراتيجية فعلية يتّم الالتزام فيها بشفافية التمويل و مراعة الجودة و احترام أخلاقيات المهنة حتّى لا يختل المشهد الاعلامي و تتّحكم “اللوبيات” في دواليب الاعلام… لتصل بذلك الى دواليب الدولة.
فراغات تشريعية
من وجهة نظر المدير المدير العام للديوان الوطني للإرسال الاذاعي و التلفزي ذاكر البكّوش فإنه و رغم وجود قوانين و مراسيم ديمقراطية على غرار المرسوم 115 المتعلّق بحرية النشر و 116 المتعلّق ببعث “الهايكا” فإنّه في المقابل لدينا ممارسات استبدادية لا تمّت بصلة لاستقلالية الاعلام بالرغم من دسترة حرّية الراي و التعبير ظلّت الممارسات التعسفيّة قائمة الذات و كأننا نعيد اقتباس الخطوط العريضة للنظام السابق الذي عمل على تدجين الاعلام و استعماله كعصا غليظة لضرب الخصوم السياسيين و المعارضين لحكمه.
و في صميم المسألة عرّج البكوش أنمه رغم تمّكن تونس من خوض أشواط هامة لتحقيق مكاسب تحرّرية و التخلّص من أشكال الرقابة السياسية إلا أنه لاتزال تعاني من التقاليد المتوارثة في الممارسات الصحفية و كيفية التعامل مع الصحفيين و كل هذا و غيرة مردّه غياب إطار قانوني مستقرّ لحماية الصحفيين من الفراغات التشريعية و عدم وجود اليات تطبيق القوانين اتي ضبطها الدستور في علاقة بتنظيم مهنة الصحافة . و ما لفت له محدّثنا النظر هو ان الخوض في مسألة الاستقلالية و ما تحمله من مضامين عميقة لا يمكن أن تتواجد على أرض الواقع طالما تواصلت ارهاصات الفوضى الاعلامية ة الانفلات السمعي البصري الذي تفاقم بعد الثورة و مردّه إعطاء التراخيص الخاصة لبعض المؤسسات الاعلامية دون اجراء دراسة تقييمية معمّقة للسوق الاشهارية وما تحتاجه.
و استدرك البكّوش انه من الواجب تشجيعا للتنوع في المشهد الاعلامي و اعطاء الفرصة للباعثين الجدد لكن كان من باب أولى ان تدرك ” الهايكا” قبل اسنادها الرخص مدى تحمّل السوق الاشهارية و مدى طاقة استيعابها و على هذا الاساس تتم الموافقة من عدمها و ذلك لضمان استقلالية المؤسسة الاعلامية و ضمان ديمومتها التي لا يمكن ان تتواصل إلا بالإشهار الضامن لاستقرارها المادي…
لكن العكس ما ذكر هو ما يحدث فعليا على أرض الواقع حيث تصدم العديد من وسائل الاعلام باستئثار بعضها بالإشهار و تباعا تحاول الوصول اليها بشتّى الطرق حتّى و ان كلّفها ذلك التنازل لتسقط بذلك في فخ “الشعبوية” و تنزل بالذوق العام الى مستوى التهريج و الابتذال و عادة ما يصبح مالك هذه المؤسسات و المشرفين عليها “ماريونات” بيد أذرع مالية تمارس الضغوطات بهدف السيطرة على أقسام الاخبار و التربّع في المنابر التلفزية لتمرير اجندة بعينها و ظرب الخصوم و هنا كان الاشهار مدخلا لضرب استقلالية الاعلام.
مصالح “براقماتية” و ميثاق أخلاقي في الميزان
أشار محدّثنا الى ان الاشهار تحّول الى وسيلة ابتزاز نهيكة و انه لا يسند بطريقة عادلة و الحصة الاكبر تكون لأطراف دون اخرى و لا يكون ذلك حسب نسب الاستماع و المشاهدة بل حسب خدمة المصالح وفق منطق ” البراقماتية ” النفعية في الوقت الذي كان من باب أولى وضع شركات محايدة تتكفل بتأطير الاشهار.
و لم يفت الرئيس المدير العام للديوان الوطني للإرسال الاذاعي و التلفزي التعريج على مسألة اسناد الرخص لمؤسسات
اعلامية يملكها رجال اعمال و رؤساء أحزاب كبرى رغم أنهم يعتبرون دخلاء على ميدان الصحافة بل يدخلون هذا الميدان
بمرجية سياسية او على ضوء
خلفية اقتصادية استثمارية لا غير
في خرق واضع للقواعد المهنية و الميثاق الاخلاقي … و هيهات تتحول منابرهم الى حلبات مصارعة البقاء فيها للأقوى وفق منطق الراس مالية المتغولة و بعد ذلك يوضع الصحفي في الواجهة و في خانة المسائلة في اول امتحان ارتكب فيها هفوة و الامثلة التي تمّ التخلي فيها عن صحفي او اكثر عديدة طبعا لانه هو فقط من يدفع فقط فاتورة الاستقلالية المقنّعة… الاستقلالية الهشّة التي تقدّم دائما أكباش فداء مضحى بهم ارضاءا للجمهور و مسايرة لامتصاص غضبه و الاكثر تعقيدا هي مسألة الانفلات الاعلامي الذي يتجسد في وجود قنوات تبث دون حصولها على تراخيص قانونية بل و تستمل ذبذبات على حساب الدولة و المخجل أن لا احد قادر على تطبيق القانون ضدّ المخالفين على مرأى كل الجهات الرسمية مرجع النظر.
و هذا ما يفضح الضعف الاداري و يعرّي حقيقة الحصانة التي تتمتع بها جهات سياسية و قوى مالية نافذة في مناخ تغيب فيه الرقابة و هنا تصبح الاستقلالية في الميزان .
ابن غير شرعي
و في خضم المسألة صرّح عضو “الهايكا” هشام السنوسي أن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة و بمختلف انتماءاتها لم يكن لها ارتياح لحرية و استقلالية الاعلام و هناك دائما نوع من التعامل معها باعتبارها ابن غير شرعي جاء بحكم الضغط و وعي النخبة و تحول الى أمر واقع دون ان يكون له مبرر فعلي في وعي السلطة التي لا يمكن لها ان تعيش معنى الديمقراطية دون وجود مناخ اعلامي حرّ و مستقل و هناك مرتكز أساسي يجب اعتماده في تناول موضوع الاعلام و استقلاليه بشكل عام و هو عدم التداول فيه خارج السياق السياسي او الاجتماعي العام.
فلو تحدثنا مثلا عن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي و البصري فنجد جزء كبيرا من عملها متعلق بأداء أطراف اخرى مثل مجلس النواب و الحكومة و رئاسة الجمهورية أصحاب المؤسسات و الصحفيين و رغم ذلك و مع الأسف حين يطرح السؤال عن الاستقلالية أو بعض الهنّات الموجودة على الساحة فبالضرورة يطرح معها السؤال أين “الهايكا”.؟؟ … سؤال يطرح منبتا عن هذه العلاقات المركبة المذكورة انفا و يحدث ذلك إما بقصد لتضليل الرأي العام او بغير قصد.
و اليوم في تونس و بعد 10 سنوات من الثورة تسعى بعض الاحزاب المتنفذّة الى وضع اليد عن وسائل الاعلام بل تحولت يعضها مثلا قناة نسمة او اذاعة القران الكريم او اذاعة الزيتونة الى أبواق دعاية لأحزاب هي أحد فروعها و اذرعها خاصة و ان هذه الاحزاب متنفذّة خاصة حركة النهضة و قلب تونس و حزب الرحمة و ائتلاف الكرامة…
و هي احزاب متحالفة تسعى الى ضرب استقلالية الاعلام و استقراره و تحاول بشتّى الطرق توظيه لخدمة مصالحها الشخصية و الحياد عما ورد في الدستور من معايير معتمدة في التجارب الديمقراطية الرائدة .
فساد و جرائم مالية… تحول دون الاستقلالية
أكّد هشام السنوسي ان “الهايكا” قد خاضت صراعا مريرا في سبيل الحفاظ على شفافية تمويل وسائل الاعلام و من اهم مصادر التمويل هو الاشهار و لكن بالنسبة للقنوات الغير قانونية فقد تجلّى ملّيا ان هناك شبهات مؤكدّة في فساد مالي يمارس على سبيل الذكر في قناة الزيتونة التي لها معاملات مالية بالعملة الصعبة مع شركة القمر الصناعي : نايل سات و بعد ان حصلت الهيئة على وثائق رسمية من البنك المركزي و كان ذلك بعد رفع دعوى ضدّ البنك المركزي لدى هيئة النفاذ للمعلومات وبعد الحصول على الوثائق تبين انّ لا أثر لمعاملات لقناة الزيتونة بالعملة الصعبة من خلال البنك المركزي مما يعني ان هناك جهات تدفع هذه الاموال من خارج تونس وهو ما يشكّل كل معالم الجريمة المالية و مع الأسف لا القضاء و لا النيابة العمومية و لا هياكل الرقابة تحركت رغم اشعارها لفتح تحقيق في الغرض .
علما و ان ” الهايكا” قد أحالت مثل هذا الملف لهيئة مكافحة الفساد منذ حوالي سنتين و مازلنا ننتظر نتائج التحقيق الى حد الان .
كما تمت احالة ملف قناة حنبعل نظرا للغموض حول شركاء أطراف في هذه القناة. هذا فضلا عن احالة ملف قناة نسمة والقران الكريم إلا انه لا حياة لمن تنادي و لا وجود لردّ .
و ختم السنوسي بالتأكيد على انّ الاطار المعرقل للاستقلالية مردّه حصانة البعض و حمايتهم من اطراف متنفذة لا تترك اثر يدينها و تتواصل بذلك محاولات اعادة انتاج ثقافة الجلاّد بزعامة الاحزاب التي تعارض علنا و تعرقل نصوصا قانونية من شانها تكريس الاستقلالية المنشودة و الحفاظ على مكسب حريّة التعبير الذي أريقت من اجله الدماء.