“أطفال على حافة الهاوية: معاناة الشباب في أحياء مرسيليا الشمالية”
جمال قتالة
في كتابه الأخيرCramés: Les enfants du Monstre من ثلاثيته حول الأحياء الشمالية من مرسيليا، يواصل فيليب بوجول Philippe Pujol استكشافه العميق للواقع القاسي في هذه المناطق المهمشة، مركّزًا هذه المرة على حياة الأطفال والشباب الذين يكبرون في بيئة مشحونة بالعنف والبؤس والاستغلال.
بعد أن تناول في كتابه الأول “La Fabrique du Monstre” الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لهذه الأحياء، وفي الثاني “La Chute du Monstre ” كشف عن العلاقة بين النظام السياسي المحلي وعصابات الجريمة المنظمة، يأخذنا بوجول في هذا الكتاب إلى زاوية أخرى أكثر إنسانية وحساسية، حيث يروي قصص الشباب الذين أُجبروا على مواجهة واقع لا يرحم منذ طفولتهم.
يعتمد بوجول أسلوبًا سرديًا عاطفيًا يجذب القارئ إلى مستوى هؤلاء الأطفال، المعروفين أحيانًا باسم “المينوت” أو “الكراهيين”، ويجعلنا نعيش تفاصيل حياتهم اليومية، المحفوفة بالمخاطر. من خلال أسلوبه هذا، لا يكتفي الكاتب بعرض المعاناة السطحية، بل يغوص في أعماق النفسية المدمرة لهؤلاء الشباب، مقدمًا صورة مؤلمة لمجتمع يتفكك أمام أعينهم.
هؤلاء الأطفال يعيشون في عوالم يسيطر عليها الفقر، حيث يكون العنف جزءًا من الحياة اليومية، ويتحولون إلى أدوات في يد النظام الإجرامي الذي يستغل ضعفهم.
ما يميز هذا الكتاب هو تصويره الدقيق لتلك اللحظات الإنسانية التي غالبًا ما تضيع في خضم الحديث عن العنف والجريمة. بوجول لا يرى في هؤلاء الأطفال مجرّد ضحايا، بل يسعى إلى إظهار أحلامهم المحطمة وطموحاتهم الضائعة، ويقدمهم كأشخاص لديهم مشاعر معقدة ورغبات غير محققة. على الرغم من القسوة التي تحاصرهم من كل جانب، نجد في هؤلاء الشباب إرادة للبقاء، وإن كانت تشوهها البيئة القاسية التي تحيط بهم. بعضهم يُجبر على أداء دور “الحراس” ضمن شبكات الجريمة، وآخرون يُستغلون في الدعارة أو الأنشطة الإجرامية، لكن في النهاية يظل كل واحد منهم مجرد طفل صغير يحلم بحياة أفضل.
من خلال هذه القصص المؤثرة، يقدم بوجول نقدًا لاذعًا لنظام اجتماعي وسياسي يستغل الهشاشة ويعزز دورة الفقر والعنف. فهو يضع القارئ وجهًا لوجه مع الواقع الذي غالبًا ما يتم تجاهله من قبل السلطات والمجتمع الأكبر، ويدعو إلى التفكير العميق في الحلول التي يمكن أن تنهي هذا الدوامة.
وبذلك، يتجاوز الكتاب مجرد السرد ليصبح شهادة حية على المعاناة والأمل المفقود، مع التأكيد على ضرورة الوعي الجماعي لمعالجة هذه الأوضاع المأساوية.
في النهاية، يُعتبر هذا العمل نداءً من أجل العدالة الاجتماعية وحقوق الأطفال، مُسلطًا الضوء على حاجة المجتمع لتغيير جذري في التعامل مع هؤلاء الشباب الذين يتم تهميشهم. يمثل الكتاب دعوة للبحث عن حلول تتجاوز الحلول المؤقتة، وتركز على معالجة الأسباب الجذرية لهذا البؤس الممتد، بما في ذلك الفقر والتهميش الاجتماعي والأنظمة التي تسهم في تفاقم الأوضاع. بوجول لا يكتفي بوصف المأساة، بل يدعو القارئ إلى التأمل في مستقبل يمكن أن يكون مختلفًا إذا تم إيلاء الاهتمام اللازم لهؤلاء الشباب الذين يقفون على حافة الهاوية.