الفكر

إشكالية الوضوح والغموض في العمل الفني

إلا أنها تشكل اشكالية في مجمل العمل الفني، واذا كان الوضوح مسلمة يتقصد الفنان ايصال رسالته الضمنية في عمله الفني الى جمهوره العريض، فان الغموض في العمل الفني يتضمن هو الآخر رسالة ويبتغي الغاية ذاتها في ايصال رسالته، وخلق استجابات ما، باتجاه محدد او باتجاهات متنوعة، والغموض من هذه الناحية لايعني تشرنق العمل الفني حول نفسه، من غير محاولة لفتح بنيته، ومدّ الجسور بينه وبين المتلقي والجمهور.

ويلاحظ ان غموض العمل الفني، ولنفترض انه مسرحي، يجتهد في إثارة فضول المتلقي والغوص فيه، وبالتالي خلق استجابات من زوايا غير متوقعة، انبرى الفنان من أجل إظهارها وزجها ضمن عمله المسرحي.

أو في ابتكار صور فريدة من خلال كيفية ما في استخدام تقنيات العرض، او في معالجة نص العرض ذاته بما يسهم بزيادة درجة التعلق والاندفاع صوب العمل المسرحي. وقد يثير عدداً من التساؤلات او علامات الاستفهام، في موضوع ما أو مواضيع.

وقد لاتجد جواباً عما نصل اليه او نصطدم به من التساؤلات لأنها بدورها تثير عدداً آخر من التساؤلات، وهكذا دواليك، فالسؤال الذي يطرح للإجابة عنه، جنينياً يحمل في داخله سؤالاً آخر، وكأنا نعجز عن الإجابة.

إلا أننا في الوقت عينه، نزداد حيطةً وقدرةً ونشاطاً في فهم او محاولة تفهم مايدور حولنا. إن الاثارة في العمل الفني، سواء أكان مسرحاً، أدبا تشكيلاً، امر لابد منه، وتتوقف درجة الاثارة على وعي الفنان من جانب ووعي المتلقي من جانب آخر، فكلما كان الفنان باحثاً متمرساً، قادراً على الإلتقاط، منتبهاً، وشغوفاً، يتميز بذاكرة حادة.

إستطاع ان يستنفذ طاقته ويزجها ضمن اطار عمله الفني، الذي يشكل منجزاً جمالياً يدخل دائرة الضوء، ولهذا يتم التركيز على الشكل الفني. للعمل بوصفه حاوياً لبنيته ومن هذه الزواية يعد الشكل عمقاً للمضمون، مثلما يكون المضمون عمقاً للشكل.

وقد تكون صياغة العمل المسرحي من حيث حواره المنطوق سواء أكان شعراً أم نثراً، أم في الصياغات الاسلوبية المختلفة للحوار، كأن يستخدم فيه المجاز او التورية، والشخصيات المسرحية وماتحمله من حيوية وطاقة في الحركة الداخلية لهم وماينتابهم من خلجات واحتراق او الحركة المجسدة فعلياً على خشبة المسرح، وقد يولى الفنان المخرج ومصمم (سينوغرافيا) العرض، غموضاً في درجة تنظم فضاء المسرح، وبطبيعة الحال، انه يبتكر وسائلهُ من خلال تقنياته المسرحية من أجل تكوين عمل فني، بشكل جمالي يسترعي الانتباه والدهشة، وزج التساؤلات تباعاً، حتى لايكاد المتلقي يلتقط أنفاسه .

فالتساؤلات والتشوق ولهفة المتابعة، كلها تجري دفعة واحدة من أجل أسر المتلقي وضمه ضمن نطاق العمل المسرحي، وقد تتجلى مستويات الغموض في الخوض المسرحي في درجة الالتماعات الفلسفية المنطوقة على لسان الابطال، او تلك المرئية من خلال التكوين الجمالي لتوزيع الممثلين على خشبة المسرح (المينرانسين) أو بفعل طبيعة تنظيم مساحة العرض المسرحي (السينوغرافيا)، أو شكل ترتيب الفعل الدرامي، سواء أكان بنمو او يتقاطع او بتجاور او بتناظر، او بتداخل الفعل –الحدث مع فعل آخر.

إن الفنان الذي يجد في عمله وسيلة من وسائل الكشف عن رؤيته ازاء الحياة وما يعتمل فيها من اصطراع، فانه يروي تعطشه من خلال أشراك المتلقي في خضم تجربته التي قد توصف بأنها غامضة، ولانجد غرابة في ذلك، فقد لايفهم العمل الفني في حينه سواء أكان مسرحاً، أم فناً تشكيلياً، أم عماراً، فأحياناً تتجاوز رؤية الفنان زمانه وعصره وقد يتجاوز حدود درايته الفنية والجمالية والفلسفية، قصوراً في معرفة مجتمعه، بعدم فهم كلي او جزئي لفن من الفنون، وهو لايلغي الدور المناط بالفنان ولايعني فشله، فالبحث عن المتلقي النبه واشراكه يتطلب مهارة ودقة، مثلما يتطلب من المجتمع تنمية وتربية الذائقة الجمالية، لتتم صياغة مفهوم يتعلق بعدم نبذ الجديد والغريب وغير السائد وغير المستساغ جمالياً.

إن الوضوح والغموض يشكلان معاً موقفاً فلسفياً في الحياة، فالوضوح لايعني بأي حالٍ من الاحوال تسطيح الافكار بقدر إختيار اقصر الطرق واقربها لضم المتلقي –الجمهور اليها، من غير ان يفقد العمل الفني الكثير، وان بالغ في التوضيح، سيسقط في هاوية التسطيح وبالتالي عدم وجود منافذ حقيقية للتأثير، وخلف استجابات وتنمية الذوق الفني. ويرتبط وضوح العمل وغموضة في الحاضنة الاجتماعية والفكرية التي تشكل مناخاً موائماً لعملية النمو والتأصيل، فكلما كانت المجتمعات تنشد التطوير والرقي، بحثت عن الوسائل الكفيلة لتحقيق هذا الهدف السامي، فضلاً عن كون الفن برمته، يقرن بحركية الحياة ومفاصلها المتعددة، فمن الصعب القول.

هناك مسرح متقدم، ورواية متخلفة، ذلك لان دائرة نظرية الادب، التي تتشكل في حياة المجتمع، هي في جلها تنشد التكامل والتعاضد، ولهذا يكون الوضوح والغموض مقرونينً بحيوية الانسان وحركيته العالية في مجتمعه، لانه في نهاية المطاف هو من يشكل وجود العمل الفني او نفيه.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق