الفكر

برجماتية الفن في المفهوم الجمالي والوظيفي

وإذا كان بعض الفلاسفة الطوباويون – المثاليون – قد مهدوا الطريق لتصورات بعيدة عن الواقع، لكنها تتوسم المعرفة عن طريق الحث على التفكير وبناء واقع يتميز بالخصوبة إلا انه يفتقر الى الواقعية الحادة المسيطرة على حركة الواقع ذاته.

 أما الفلسفة المادية فقد شددت على الاقتصاد وحركة التاريخ في الواقع والحياة.

إلا أن بين الاتجاهين الفلسفيين كانت الفلسفة البرجماتية(*) التي أقتربت من الواقع، ترى مايدور فيه، وتحدد مساره.

 وبالتالي تتم الصياغة الفلسفية لهذا الواقع، بكلمة أخرى ان المنطق البرجماتي يصوغ النظرية لحركة الواقع نفسه، دون ان يضع أفكارا من خارج الواقع، أو يستعير بعض الافكار من واقع آخر، لهذا تعد البرجماتية بمثابة استنطاق للواقع بكل ما يحمل من شحنات وتجدد وافق يتميز بالقوة والديمومة الخلاقة .
من هنا تثأر تساؤلات عن نوع العلاقة التي تربط الفن بالفلسفة؟ وهل الفن يتأثر بالفلسفة ويستجيب لها أم الفلسفة تتأثر بالفن، فتستجيب اليه؟ 
إن إشكالية الفن تدفع لمناقشة الفن ذاته، بوصفه مفهوما له علاقة بالإنسان، فقد ذهبت الدراسات المرموقة الى حقيقة مفادها: إن الفن حاجة وتعبير عن الحياة الاجتماعية لبني البشر. لهذا فأن الفنان يسعى لمد جسور المواءمة مع الحياة من خلال عمله الفني، وللسبب أعلاه فان الناس يمارسون بجد ونشاط مختلف المجالات الفنية، للتعبير عما يشكل دبيبا مستمرا داخل النفس من أفكار وهواجس وتطلعات يقصد من خلالها ايجاد ايقاع التلاقي مع الحياة وان كان الاختلاف معها أمرا لابد منه.
وإذا كان الفن يبعث على الغبطة، ويشيع الأمل، ويفتح نوافذ الاندماج بحركة الحياة وسيرورتها الدائمة.

 فان الانسان مهما كان وباختلاف الوعي الثقافي والجمالي، فانه يمارس العمل الأبداعي بطرائق عدة أشكال متنوعة ووسائل متباينة وبدرجات مختلفة أيضا.
الفن حاجة أساس وموجود في كل شيء، فالحياة العصرانية فيها كل أنواع الفنون، وتلبس شيطان الفن كل زاوية في الحياة، ولو التفتنا الى ما يحيطنا لوجدنا كل شيء يقرن بالفن، بل لو انتبهنا الى انفسنا وعلى سبيل المثال الى ما نرتديه من ملابس، لوجدنا الالوان والخامات والزخارف وتصميم الزي وشكله الذي صاغه ذوق فني، أسهم به أكثر من تخصص، بدءا من الرسم وانتهاء بالفن الطباعي على الأقمشة ولو نظرنا الى قطع الاثاث والمعلبات التي نشتريها، أوعلب المواد الغذائية، ولو تمعنا بالأجهزة الكهربائية و لعب الاطفال وتصماميها المختلفة وأشكالها المتنوعة.

 ولو ذهبنا الى ابعد من ذلك ونظرنا الى العمارات والبيوت وتصاميمها المثيرة للأنتباه، والزخارف المنقوشة على الواجهات وأطر الابواب والنوافذ، وأحجامها وألوانها، وإذا أمعنا النظر بالصحون التي نتناول فيها الطعام، باشكالها واحجامها والوانها وزخارفها، فان الفن دخل في تصميمها، كما الحال بالمركبات المتنوعة الاشكال والأحجام والألوان والوظائف المناطة لها، وصولا الى الطائرات المحلقة، والسفن المبحرة، بل حتى تصميم المدن والأمكنة المختلفة: أماكن العبادة، المستشفيات، المقاهي، الفنادق، المنتجعات..الخ 
خلاصة الكلام، اننا نقف وجها الى وجه أمام فنون مختلفة متنوعة، وان من انجز تلك الفنون –الصناعات- التي دخلت في لب حياتنا، هو فنان سواء درس الفن فعليا أم كان شغوفا به، يستأنس بآراء الفنانين ويأخذ بها.
لقد دخل الفن كل الابواب الموصلة في الحياة، ولم يعد الفن لوحة تعلق على الجدار، أو فيلم نشاهده، أو مسرحية نتمتع فيها فحسب.

ذلك لان هذه الفنون دخل المفهوم الصناعي في جوهرها، من حيث الانتاج والتسويق، وبالتالي حتم امر استعادة الاموال، تسويقها وجني الارباح المالية، فالسينما فن وصناعة وتجارة، لهذا فاننا نشاهد نسخة من فيلم معين كما هو بالضبط الذي يعرض في مختلف دور العرض السينمائية في العالم، وفي وقت واحد، مثلما دخل تسجيل العروض المسرحية عن طريق تقنيات جديدة وصار من السهل تداول تلك العروض في بلدان العالم على أختلاف لغاتهم وانظمتهم السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية…الخ
لقد دخلت الفنون مضمار الصناعة والتصنيع وتلقف التقنيات الجديدة التي ساهمت بصورة فعلية باشاعة الفن وتداوليته على اوسع نطاق، ودخل طرفا في اشاعة وترويج المستجد والمكتشف، مما يلبي حاجة معرفية وذوقية جمالية وتجارية في الوقت ذاته.
في ضوء ماتقدم، لم يعد الفن كما عرفه الفيلسوف (كانت): منزها عن الغرض. بل ان الغرض اضحى جزءا لا يتجزأ من خاصية الفن، لقد دخلت المنفعة طرفا جوهريا بالفن، والتكنلوجيا المعاصرة اتاحت له الأنتشار، وبذلك تحقق الجانب النفعي للفن، لقد أضحى الغرض مرتبطا بالفن، بعد الانقلاب الهائل الذي أحدثته الثورة الصناعية والتكنولوجية وهو جزء من برجماتية الفنون، بوصفها تلبي حاجة اساسية للإنسان.
ان تنوع مناخات الحياة وتطورها المستمر، أضفى وظيفة مستجدة للفنون بوصفها تقرن بايقاع التطور من جانب، وتلبي طموحات الانسان من جانب آخر، لهذا دخل الفن الصناعة، فأضحت فنون صناعية، أو كما يطلق عليها بالفنون التطبيقية، بوصفها لها استخدام وظيفي مناط بها.
ان فضاء الفن وكما يتضح الان صار أوسع وأكبر من ذي قبل، ولايمكن للحياة وتنظيمها ان يستقر من غير فن من الفنون في ايً من مضاميرها، فما من زاويا في الحياة على حد علمي، إلا ولها حاجة لفن ما، بدونه لاتكتمل ولا تؤثر ولا يكون لها وزنا في سوق: الثقافة والاقتصاد والتجارة والفن.
ولم يعد الفن منحسرا محدودا بنطاق ضيق، الفن استجاب لإيقاع العصر، وإيقاع الإنتشار على أوسع نطاق، وليس هذا فحسب، بل امتدت دائرة الفنون محطات جديدة داخل مفاصل التخصص الفني، اذ تغلغل الفن فيها وأصبح جزءا لايتجزأ من كينونتها الخاصة. وفضلا عن ذلك تطور الفنون ذاتها وابتكارات داخل الفن الواحد، وعلى سبيل المثال ان دراما المسرح، تطورت منها درامات اخرى بأشكال مختلفة مثل : دراما السينما – الفيلم، دراما التلفزيون ،دراما الإذاعة وربما القادم من الايام سيكشف النقاب عن الجديد عن الدرما بفعل ثورة التقنيات في عصرنا، والمسألة ذاتها في الفن التشكيلي ايضا اذا اتسعت دائرته وتشعبت تخصصاته.
أن تجذر الفن في مفاصل الحياة وتشعباتها منح فرصا اكبر لإنتشار الفنون وتوسيع رقعتها، بحيث أضحت في متناول اليد وتصل الى ابعد نقطة يسكنها البشر في العالم، فالفن الطباعي على سبيل المثال، استطاع استنساخ الاعمال الفنية بكميات كبيرة بحيث تكون بمتناول الايدي. ومن الطبيعي، ان تكون ثمة فروق بين الاصل والمستنسخ من اللوحات الفنية كبيرة الشأن، كما هو حال الفرق ذاته بين مشاهد عرض مسرحي في صالة العرض، عن مشاهدته D C.، وبالتالي سيفتقر، الفن 
الطباعي، عن بعض الخصائص التي تميز بها، لهذا يبقى للأصل قيمة فنية خاصة، أسوة بالمنحوتات الصغيرة التي بذل الفنان جهدا بقصد انجازها، اما استنساخها وتوزيعها في ازقة العالم ومدنه، يتيح فرصة المعاينة ولمس تلك المنحوتة.
ويلاحظ ان الفنون التطبيقية وطباعة الاعمال الفنية وسًع من دائرة انتشار الفنون الى حد كبير ، بما جعل النتاجات الفنية الابداعية بايدي الكثيرين من الناس ، سواء أكانوا ممن يهتموا بالفنون أم لا، ويفهم من ذلك ان التكنولوجيا ساهمت بجعل الفن شعبيا، بمعنى الارتقاء بالذائقة الجمالية على نطاق واسع وبالتالي فان برجماتية الفن، شكلت نواة الجمع الوظيفي والجمالي للقطع الفنية، فالجانب النفعي يبقى اساسا في انجازيتها وفي الوقت عينه تحقق بعدا جماليا له أعتباره وقيمته.

وهذا الامر يشير الى ان الفن بصورة عامة التقط المتطور في التكنلوجيا وزاد من نطاق انتشاره وتوسيع مدى تأثيره.
إن الحياة، اي حياة انما تنبض بايقاع يفلسف وجودها، مثلما الفن يفلسف الوجود بذات القوة والتأثير فإذا كانت الاعمال الفنية التطبيقية ذات طابع نفعي، فإن الصيغ التي باتت تشتغل عليها دائرة الفن في التصنيع وإشاعة الاعمال الفنية وجعل الثقافة الفنية شعبية، هو مفهوم نفعي ايضا. 
____________

(*) البرجماتية: هي احدى الفلسفات المعاصرة وترجمت على انها ذرائعية، ويتصدرها الفيلسوف الامريكي وليم جيمس، على الرغم من جذرها الاغريقي المعروف بالسفسطائية، وقد قرنت ببروتوجراس، الا ان جيمس استطاع ايجاد مقدمات مميزة لمنطقه الفلسفي، بما جعل البرجماتية الفلسفة المستندة الى الواقع وتعود اليه من جديد بمعنى ان النظرية تستل من الواقع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق