الفنون

التمرينات وجمالية العرض المسرحي

تجري عملية تشكيل العرض المسرحي في ضوء رؤية المخرج وتبني طاقم العمل المسرحي تلك الرؤية واحياناً الإضافة بما يتفق وخبراتهم ودرجة وعيهم وممارستهم الفعلية. لذا يؤدي تقدم التمرينات وزيادة عدد ساعاتها، إلى تقدم مماثل يحدث في العرض، وعملية التكثيف هذه، تسهم بانضاج العمل، وعليه فالتمرينات بمثابة المسافة الفاصلة بين نص درامي وعرض شعري بوصفه قيمة جمالية.

إن الإضافة المرتقبة في العرض، والبحث عن مواطن الجمال فيه تأخذ سلسلة من تلك التحولات بدءاً من النص وشبكة العلاقات والاحداث والبنية المتراصة له، ورؤية المؤلف الكونية للعالم، ثم يأتي خيال المخرج، بوصفه واضع استراتيجية العرض، والبحث عن الزاوية التي يطل من خلالها على العالم. ان التصورات الاخراجية لاتتحقق ما لم يكن هناك ممثلون بارعون، باجساد طيعة وأصوات مرنة، وعقول متفتحة، والتمرينات تزيد من حماستهم وتكشف عن جوهر ما يملكون من مواهب وقدرات وطاقات محركة ومتحركة، والتمرين يضم ايضاً التقنيين في : الإضاءة، المنظر، الأزياء، الموسيقى، والمؤثرات، وهؤلاء سيكون لهم نص آخر، نص تقني، بمعنى أن عمليات التعبير والتجسيد الفني والكشف عن مواطن الجمال في العرض، ستتخذ صيغاً جديدة ووسائل أخرى غير الجسد والصوت عند الممثل.

إن اتساع نافذة ثقافة التمرين، تتيح مجالاً رحباً لتشكيل العالم المتخيل وجعله محسوساً ومدركاً وحاملاً للقيم، عبر اشتباك قنوات الخطاب وتماسكها وتنظيمها وجعلها مؤثرة ومدهشة، حيث ينبغي لها ان تخترق بقوة المتلقي روحاً وعقلاً ومرجعية، وبالتالي تحقق الدهشة ومتعتها السرية.

إن تشكيل عوالم متخيلة متتابعة، في سلسلة من الصدمات النافذة، ليست بالأمر الهين، ولاتتأتى من خلال رغبة ذاتية وانما تعتمد في صميمها على رؤية المخرج والارضية الفلسفية والكيفية التي يجعل من خلالها العرض لحظات تجلي يسمو بها وبالمتلقي. وعليه، فالتمرينات لملمة لجزيئات العرض بصرية، سمعية، حركية، بكل ما تحمل من تفاصيل، ثم ايجاد عملية لبناء الشكل الفني، بحسب اتجاه المخرج، فقد يعتمد المونتاج في البناء البصري: المنظر، الاضاءة، الازياء، اجساد الممثلين ويداخلها مع بناء سمعي، للاصوات، والموسيقى والمؤثرات، وقد يجعل الحركة قيمة جمالية في اجساد الممثلين أو حركة الضوء الموضعية والانتقالية من مكان إلى آخر.

 إن عملية الربط بين اجزاء العرض، لايمكن لها أن تتبلور من غير التمرينات المستمرة، وصورة التمرينات الاولى، غيرها عندما تتقدم وصولاً إلى اليوم الأخير قبل العرض (الجنرال بروفة). ان تشكيل الصور المسرحية، المتغيرة والمقتربة من نهاية صياغتها تخلق العالم المتخيل الذي يبدو مستحيلاً من غير التمرينات المكثفة، وان كان التمرين غير مكتمل العناصر، إلا أن جماليته، تمتلك القيمة المختزلة والمعمقة في اكتشاف الفنان لذاته وشعوره الذي يزداد تجذراً، بوصف مايتم التوصل اليه ويدخل في صلب العرض.

انما يكتسب كامل الحقوق، ذلك لكونه تعبير عن اجتهاد مثن للتفكير والعمل المستمر. ان التمرينات المنضبطة والدقيقة والعميقة، تصل حداً من قيمتها الجمالية، يفوق في احيان غير قليلة يوم العرض، وهذه المتعة لا ينالها، إلا فريق العمل او من يرافقه، فالجمهور يأتي يوم العرض.

أما تفاصيل التمرينات فإنها تذوب في العرض نفسه وتجعله خلفها ولايرى غير العرض فقط، اما تلك الخبرة العملية والجمالية انما يتحصن بها ومن خلالها فريق العرض. فالجمهور لايعرف كيف تمت عملية بناء وحذف لهيكلة العرض الذي يراه، ولايدرك تماماً طبيعة آليات اشتغال العاملين في فريق العرض وحجم الجهد المبذول.

ان العرض يحمل العديد من القيم يتم بناؤها واختزالها وتضمينها ضمن اطار العرض، ولايرى الجمهور غير ذلك المنجز المتخيل، اما الكيفية التي تمت من خلالها ولادة ذلك المنجز وساعات التمرينات الطويلة والشاقة، ومكابدة العاملين من أجل إنجازه، التي شكلت احياناً معضلة، لكن الإرادات العاملة بجد، تقوم باذابة الجليد وإعادة الحياة للعالم المتخيل – العرض. ان القيمة الجمالية، انما هي شعور يحمل في طياته الجديد والمضاف والغرائبي مما يضفي شيئاً جديداً وقبساً لتجديد الحياة ذاتها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق