الفنون

البنى المجاورة للمسرح

المسرح أسوة بالمعارف المجاورة، ابتكر رجالاته العديد من الصناعات دخلت عالم المسرح، ليكون أكثر تأثيرا وسطوة على المتلقين، وان المسرح يستقدم الصناعات التي تحدث في مختلف ضروب الحياة ويدخلها عالمه، بدءا من الاغريق وانتهاء بأحدث التقنيات الآن. واذا كانت تكنولوجيا المسرح قبل الآف السنين ابتكرت وسائل تعد فقيرة بمفهومنا المعاصر، الا انها في حينها تعد ثورة تنم عن عبقرية العقل المسرحي، بإستدراجه لتلك العلوم واستنطاقها ضمن أطار الأشتغال الفني للمسرح.

ان اتساع الاكتشافات والإختراعات، وصولا الى إختراع الضوء، وبالتالي دخول المصابيح دور العرض، بعدما كانت العروض لدى الاغريق تعتمد نور الشمس، أو العروض التي اعتمدت على المشاعل الزيتية لاحقا.ان الضوء الصناعي شكل علامة فارقة في التفكير المسرحي على مستوى كتابة النص الدرامي، العرض المسرحي، سويق العرض للمتلقين، واخيرا على ريبورتوار العروض المسرحية.

إن أكتساح التكنولوجيا لعالم المسرح، هي في الاصل مأخوذة من بنى مجاورة، وقد تكون صناعية، إلا انه قد تم توظيفها وجعلها جزءا من تقنيات المسرح وإمكانته غير التقليدية، اذ ظهرت الخطافات التي ترفع قطع الديكور الضخمة الى اعلى سقف المسرح وتخفيه تماما عن أعين المتلقين، وما ان تكون الحاجة اليه في مشهد لاحق، حتى يتم انزاله بهدوء في المكان المطلوب ويستمر الحدث، بعد ان تكتمل صورة المسرحية، وكأن شيئا لم يكن. وظهرت العديد من الأجهزة الدقيقة والمهمة في المسرح، بأجهزة الضوء المتحركة، والعواصف، الضباب، البحر… الخ .

إن فن المسرح يعتمد الصناعات المبتكرة التي وجدت لمضمار حياتي آخر، إن لم تكن قد أخترعت خصيصا الى المسرح،وان تدجينها مسرحيا ضمن أطار ما، إنما يعبر عن درجة رهافة العقل المسرحي ومرونة في التعامل مع الجديد في العالم وخلق وشائج معه. ان ذلك يصوغ مفهوم البنى المجاورة التي تدور حول المسرح، الذي إستدرجها الى عالمه ليثري العرض المسرحي، ويجعله أكثر أبهارا، وأعظم تأثيرا.

اذا كان المسرح الفن المتسم بالحيوية والدفء، فكيف له ان يستمر بهذه القوة في صموده وتحديه لكل المتغيرات، ما الذي يكتنزه فن المسرح!!؟ من الطبيعي ان الصناعات التي استشرت في مختلف ضروب الحياة وجدت لنفسها مكانا في المسرح وبحسب الحاجة اليه، ومما لاشك فيه، ان ذلك منح المسرح عزما أعلى مما سبق، فالصناعات التي دخلت في تكنولوجيا المسرح، على سبيل المثال لا الحصر، المسرح الدوار، أو مقدمة المسرح المتحركة للأعلى والى الأسفل، أو السقوف العالية الى الخشبة، او صالة المشاهدة المتحركة بحسب المشاهد التي يتابعها المتلقي، وغيرها الكثير.

إن هذه الخصائص المستجدة في المسرح من حيث عمارة المسرح، ساهمت فعليا بتكوين الصورة المسرحية وأضافت اليها رونقا وجمالا، ومنحت الصورة المسرحية: الإقتصاد، والسرعة، والجمال،والبلاغة الفنية في التعبير.

ومما لاريب فيه ان عمق البعد الجمالي للصورة المسرحية، قد تغذى على التكنولوجيا من حيث بناء الشكل الفني، وعليه فان الصناعات والتكنولوجيا ترتبط فعليا بالعرض وتعيد تشكيله. لهذا جرت العناية بالشكل الفني للعرض، وظهرت اشكال فنية مهمة وجديدة تدفع للأنتباه، فالشكل أكثر تأثيرا بالتقنيات، وما أكتشاف أو إختراع تقنية ما، يساهم بصورة جوهرية بإضفاء المتعة الخالصة بفن المسرح.

على سبيل المثال اختراع التلفزيون مهد لظهور دراما تلفزيونية بتقنيات مختلفة عن المسرح، وقبلها دراما الإذاعة وكلاهما يدخلان الى عالم العرض المسرحي بعدهما بنى مجاورة للمسرح. ان ذلك يثير اشكالية فن المسرح، الذي يستقطب ويزواج بين العلوم والفنون، ويداخل بين الصناعية والتكنولوجية لخدمة عقل وشعور المتلقي، واكتشاف فضاءات أخر في العرض، ويمكن القول: ان نشاط البنى المجاورة الصناعية والتكنولوجية، رفدت العرض بالكثير، مما مهد لان يكون المسرح مستجيبا لايقاع تطور الحياة، بكلمة أخرى، ان الفن المسرحي بتقريبه للجديد المبتكر صناعيا، وضمه واشتغال العرض عليه ومن خلاله، جعل من المسرح الفن الجميل الذي يزداد صلابة بمرونة ضمه للبنى المجاورة اليه واستقطابها.

إن فن المسرح، هو العالم المتخيل الذي ينشأ من عمليات أقل ما يقال عنها بانها معقدة،وان شبكة علاقاته تتيح المجال للأشتغال على عناصر العرض، وبضمنه نص المؤلف، الذي دخلت العلوم والمعارف في نطاقه، بدءا في بداياته، التي عرفت بالمؤلف الاغريقي (اسخيلوس) الذي كتب مسرحية (الفرس) عن واقعة حرب بين الاغريق والفرس. ان الذي يثير الأنتباه، ان المؤلف الاول في العالم – لحد هذه اللحظة – استقطب الحرب التاريخية، وصاغ منها دراما، والمسألة تتعلق بالتاريخ، وكيف يتم استقطابه واستنطاقه دراميا، لقد دخل التاريخ بوصفه نسق معرفي له نظامه وانتظامه الداخلي بِعده، يقع ضمن المعارف الإنسانية لقد غذى التاريخ عالم الدراما، فزاد من قيمة الموضوع الذي تم التطرق اليه، وأثار شجون وأحلام ومشاعر الانتصار لدى الاغريق – في حينها – وبغض النظر عن المستوى الفني لكتابة النص، انما الاشارة المهمة تتحدد بكيفية الأعتماد على علوم أخرى وجعلها مرتبطة بالمسرح، ولايمكن الفكاك منها.

إذا كانت الاساطير التي تمثل المعرفة البشرية لذاتها ولتكونها، وما تحمل في اعماق المجتمعات من أفكار وأحلام وتصورات حول الكون والعالم والحياة التي ضَمنتها صًورتها تلك الاساطير، ففي مسرحية (أوديب ملكا) لمؤلفها الاغريقي(سوفوكليس) الذي وظف الاسطورة الشهيرة المعروفة بالاسم ذاته، وبذلك نسجت الدراما، من خلال الأسطورة بكلمة أخرى، ان النص الدرامي انما استقى وجوده فعليا من خلال الأسطورة بعد ان أعيد توظيفها، مما جعلها من النصوص الكبيرة التي لايرقى اليها الشك .

 ويلاحظ ان الاسطورة التي شكلت نسقا معرفيا له كامل الحقوق ،جرى توظيفها بما جعل للاسطورة مكانة في النص المسرحي، وازداد المسرح تدعيما وصار أعظم قوة مما كان عليه .

إن التداخل بين الانواع وربما التداخل لاحقا بين الأصناف يولد طاقة للدراما، تحث وتدفع لا للأبتكار حسب، وانما لجعل الحياة مورقة بالأمل والإبداع والعمل المستمر بتغذية الجديد المبتكر المعبر عن ولُهُ الانسان، بوصفه يتقدم ولايتخلف .

وماذا عن العلوم الجديدة: علم النفس، علم الإجتماع، وقبلها الثقل الفلسفي، الذي يشكل استراتيجيات النص الدرامي، ومحور الارضية التي يقف عليها ومن خلالها يتم، التعبير عن رؤية المؤلف ومنظوره للحياة وموقفه الكوني . لقد دخلت الكثير من العلوم الانسانية التي ابتكرتها قريحة البشر، فعلم النفس باتجاهاته المختلفة ونظرياتة المتنوعة، صار جزا من عملية تحليل وتفسير النصوص، وكذالك الامر بالنسبة الى علم الاجتماع. وقد ظهرت معارف جديدة نسبيا مثل: الانثربولوجيا التي امتصها المسرح لعالمه وصارت ملتصقة به، نصا وعرضا واداء تمثيليا. مثلما ظهرت علوم اللغة، الشكلانية والبنوية والسيمياء والتفكيكية… الخ

ساهمت برفد المسرح باجهزة معرفية لأستشعار مواطن الجمال، ومتعة المعرفة الدقيقة بما يجري على المسرح. ولا ندهش، ان تطور مفهوم البنى المجاورة ان يستقي جديده من العلوم البحتة: الكيمياء، الفيزياء، الرياضيات… الخ انما يفتح مجالات لعالم المسرح بما يجعله، أشد وتيرة بتقدمه، وأكثر أشعاعا بتأثيره. وعليه يمكن القول: ان البنى المعرفية المجاورة بالأختصاصات المختلفة، ساهمت بجعل المسرح وتركيبه وشكله، نصا وعرضا، أكثر ثراءً، وغنىً مما كان عليه، ومفتاح لتطوره المستمر، ما دام ديدن البشرية هو التقدم والأكتشاف، والمسرح الجامع الهائل والقادر على صياغة الجمال وتنويعه، والقادر على الإستقطاب، مما يجعله الأقوى بين الفنون الأخرى لا لكون المسرح الصورة الحية للوجود الانساني والإيغال بها، بكل ما يحمل الوجود من لحظات قوة وضعف، وانما نسق المسرح المعتمد على اكتشاف الجديد المثير للأنتباه، وفي الوقت ذاته، مد اليد لأستدراج المبتكر وضمه الى عالم المسرح، وجعله منتميا بعمق اليه .

 (*) للمزيد من المعلومات، ينظر : منصور نعمان . اشكالية الحوار بين النص والعرض في المسرح، اربد : دار الكندي للنشر والتوزيع  1999، ص ص:50- 60.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق