الفكر

البعد الجمالي للتكرار في المنجز الإبداعي

إن لم تؤسس الحياة على مبدأ التكرار نفسه، فحركة الكون بين شروق الشمس ومغيبها، والولادة والموت، وتكرار فصول السنة.

 وقد تكون صورة الانسان بسعيه اليومي من أجل تأمين معيشته دون كلل أو ملل.. بحيث تتشابه الأيام.

ويصير التكرار لها أمرا مألوفا وإذا ما تتبعنا الحضارات الإنسانية فكلها عاشت لحظات التكون والصيرورة وتدخل مرحلة النضج ثم التحلل وأخيرا الإضمحلال.

إن دورة الحياة ذاتها تتكرر، فحضارة تولد بعد أخرى لفظت انفاسها.

فأين حضارة الفراعنة، الإغريق الرومان…الخ ان التكرار صبغ الحياة بأوجهها المتعددة، وكذا الحال لدى الفنون بأشكالها المختلفة، وإذا كانت الفنون والآداب تنحو باتجاه خلق ايقاع في المنجز الذي يعد روح العمل الفني، إلا ان ذلك لايلغي بأي شكل من الأشكال التكرار والتداخل فيه، ومن المسلم به، انه يتنافى مع الايقاع الفني في النص سواء أكان: عمارة، رواية، نص درامي ـ مسرحي، اذاعي، تلفزيوني ـ عرض مسرحي أو سينمائي… الخ

إن التكرار هو إعادة جزء او جزئية من حوار أو مقطع من موقف لأكثر من مرة، داخل النص وقد يكون التكرار لفصل كامل، وأحياناً يكون التكرار في شكل تركيب النص، فندرك خاصية التكرار في نهاية قصة ما وبداية لأخرى.

وتبلور التكرار في الجداريات النحتية للحضارات الأولى، باصطفاف الجند او البشر الذين يشكلون العالم القديم.

 وامتدت ثقافة التكرار في مفاصل الحياة، فيكون التكرار بالشكل الفني للجداريات.

ففي العمارة يكون التكرار إلزاما وظيفيا، اذ يكون التكرار في الشكل العام له جماليا ووظيفيا وذلك بالتكرار، وعلى سبيل المثال النوافذ أو الاطارات الخاصة بها، بحيث تتكرر الطوابق العشرون التي تتكون منها العمارة بالإيقاع ذاته فتكون بنية العمارة الجمالية مستندة على ذلك التكرار.

وإتضح التكرار بالشكل المعماري للمساجد، وكان القوس، الذي اتخذ شكل القباب الخارجية، والأعمدة التي أنتصبت عليها الأقواس على امتداد جدران المساجد، فظهر تكرار للقوس، الذي صار أسا ايقاعيا، في البنية المعمارية للمساجد، حتى صار من الممكن ان نقول: ان الثقافة الفنية الاسلامية هي ثقافة قوس، وله معناه الديني، بوصف الانسان المخلوق الضعيف ينحني امام الخالق القادر على كل شيء. ان القيمة الجمالية تجلت بالمعنى الخفي الذي يرمي اليه تكرار القوس، انه يساهم بترسيم وترسيخ وتأكيد المعنى الجميل لضعف الانسان وأستئناسه وتسليمه للخالق. والى معنى البحث في فكرة الوجود البشري وسعيه بين الممكن – نقطة الشروع – الى اللامتناهي في البعُد. وعليه فان التكرار يحمل في طياته دلالات التعبير الجمالي وقيمته الدينية.

أما في اللوحة التشكيلية، يكون التكرار بسطح اللوحة وتوزيع الاشكال عليها، فقد يتكرر التوزيع بما يخدم قضية أو مفهوما فلسفيا يتم التعبير عنه جماليا، كما حدث الامر ذاته في الفن الاسلامي عندما تمت الاستعانة بأعلى اللوحة وأسفلها للتعبير عن القرب والبعد، وبذلك تم إلغاء البعد الثالث فجعل الأعلى للبعيد والأسفل للدلالة على القريب، ومن الطبيعي ان يتكرر الأمر نفسه في مجمل اللوحات في تلك الحقبة، وبذلك برز التكرار هاهنا للتعبير عن مفهوم جمالي، له قيمته. وقد يكون التكرار بالنصب العملاقة أو بالمنحوته المكونة من أشكال عدة، فقد يكون التكرار بالحركة أو الاتجاه وأحيانا يكون بالفضاءات الداخلية للمنحوته ذاتها، اذ يتخللها الفضاء الخارجي ويكون جزءا من تكوينها النحتي، وبذلك يكون التكرار له قيمة جمالية لا بالموضوع حسب، وانما بالشكل الفني الذي يكون عليه، بوصف التكرار شكلاً تنويعا وقدرة باستنطاق المعنى وأضفى بعدا الى المنحوته لم يتحقق إلا من خلال الفضاء.

أما في الدراما الإذاعية فان المؤلف لنص من (30) حلقة إذاعية سيضطر مرغما الى التكرار، و يعود ذلك بتقديري الى أسباب وجيهة منها: سعة الأحداث والشخصيات، اختلاف تلقي الدراما لمستمعين بأجوائهم المختلفة، السقف الزمنى لبث المسلسل على مدى (30) يوما مما يصعب تلقي الحلقات كافة.

إن ماتقدم من أسباب يوجب التكرار لبعض الأفكار لكي تبقى عالقة في ذهن المتلقين. وبطبيعة الحال ان ذلك لايتفق وصيغة الدراما المبنية أساسا على لملمة الحدث، والإقتصاد بالحوار، والإنطلاق بأسرع مايمكن لبلوع النهاية.

إن خاصية الدراما الاذاعية تختلف عن المسرح من حيث الكيفية التي تتمتع بها، بوصفها سابحة في مخيلة المتلقي حسب، وليس هناك ما يساعد على ثباتها وتجذيرها من تقنيات باعتبارها صورة حسية: أزياء، ديكور، ماكياج… الخ مما يفسح المجال ان يتخذ التكرار وظيفة بترصين الحدث واعادة المتلقين الى جوهره. فكلما تقدمت الاحداث نكون بحاجة الى تنشيط ذاكرة المتلقي ببعض الشخصيات، الاحداث السابقة، المواقف الاساسية.

وعليه فان التكرار يدفع الى ترصين الدراما الاذاعية لأنها تعتمد صورة تبنى في مخيلة المتلقي. اما الدراما التلفزيونية بكيفيتها التقنية المختلفة عن المسرح وتقترب من الدراما الاذاعية، وان كانت درجة التكرار أقل فيها.

إلا ان المشكلة الاساس فيها لا الرقعة التي يتحرك فيها الحدث فقط، بل ان امتداد الحلقات الى (30) حلقة وقسم منها امتد متجاوزا هذا الرقم – المسلسلات الاجنبية – يكون التكرار مفيدا لتأكيد الموضوع والشخصيات والأحداث بدرجة أقل من الدراما الاذاعية.

اما في قصص الف ليلة وليلة، ظهرت الحكايات المختلفة من باطن حكاية اساس بين شهريار وشهرزاد، التي تنوعت حكاياتها واختلفت، وكل ليلة هناك حكاية، وكل حكاية لها بداية ووسط ونهاية، والحكايات على اختلافها وتنوعها، الا أنها تتداخل من خلال مبدأ القص على لسان شهرزاد. ان الملاحظة النقدية تتجلى في الصيغ التكرارية التي تم الاعتماد عليها في القص، والحكايات بأجمعها تتراكب الواحدة بعد الأخرى، اذ يكون ادراكا عقليا، فما ان تنتهي قصة حتى تبدأ قصة أخرى – اذا تم استثناء شهرزاد – وتتكرر المسألة على امتداد القص, فالتكرار في استمرارية الأحداث باختلاف: الشخصيات والأجواء والأمكنة والأزمنة. فهناك حركة لولبية في بنية ألف ليلة وليلة، وهي بمثابة الحفر الدائري في ارض الأحداث. والمسألة الجديرة بالانتباه. ان التكرار هو في صميم النص وجزء من تكوينه، ويكاد ان يكون روحه. ان صيغة التكرار في بنية القص أضفت الجمال ومنحت الحيوية، بعكس ما كان مفهوما عن التكرار بوصفه يعطل الايقاع وينهكه. وفي مسرحية تعليمية صغيرة هي (القائل نعم والقائل لا) التي كتبها (برتولد برشت)، وهي المرحلة التي كان معنيا فيها بالمسرح التعليمي، اذ يظهر من خلال النص، ان الفصل الأول شبيه بالفصل الثاني، ويكاد يكون هو هو، اما الاختلاف فقد كان بموقف البطل مما جرى أمامه ففي الفصل الاول يقبل البطل فيقول: نعم، اما في الفصل الثاني فيرفض فيقول: لا يلاحظ ان التكرار كان بقصدية عالية، وذلك لإحداث هزة بوعي المتلقي، وكان التكرار محور النص وفي صميمه تماما، بغض النظر عن الصيغة التعليمية التي جاء من خلالها. وفي نص آخر، قد ظهر التكرار بأغرب صوره وعد انقلابا في شكل بنية النص وعدت من أروعها، ففي مسرحية (في أنتظار كودوت) لمؤلفها الفيلسوف (صموئيل بيكيت) تجلى التكرار في حوار بين البطلين(استراجون وفلاديمير)، واعتبر ذلك ميزة للنص، الا ان الأهم كان بتكرار الفصل الثاني للفصل الأول منه في النص المتكون من فصلين فقط، وجاء التكرار على لسان الصبي أيضا الذي تكرر دخوله ليعلن للبطلين عن عدم امكانية حضور ( كودو) الذي ينتظرانه.

وتجدر الإشارة، الى ان التكرار شكل سمة قصدية كاملة في النص، ورسم لنفسه طريقا جديدا ليحفر معنى متفلسفاً عن الحياة والوجود وعبثه وجدوى البقاء منتظرين القادم الذي لايعرف كنهه وأفقه ومعناه وطريقه. ان التكرار كان الزاميا يتحكم في المعنى، المؤسس لفاعلية عالية النشاط والتوجه، وشكل الجانب الجميل في بنية النص، لانه يستنطق معنى اكبر من التكرار، انه يجرجر المعاني على اختلافها ليضعها في مأزق الانتظار الذي يفرض شرطيا التكرار. وهنا اتسق التكرار وظيفيا وجماليا، واتخذ معنى فلسفيا، ينبهنا كي نرى ونتأمل مفكرين بالحياة والوجود والمأزق الذي نعيشه.

أما في العروض المسرحية، فان لتكرار الحوار مهمة أساسية، وعلى وجه الخصوص ان كانت المسرحية المقدمة من الصنف الكوميدي، اذ تشكل أحيانا لازمة تتكرر باستمرار، مما يولد الضحك.

 كما أن التكرار قد يتخذ شكلا فنيا مميزا للغاية، على وجه الخصوص ان أريد للعرض الكشف عن معان خفية في نص المؤلف، أو أريد للعرض ان ينوه عن موضوعات معينة يصعب البوح بها أو الجهر العلني بلا، لذلك يجتهد التقني بالاتفاق مع المخرج، بصياغة فنية لتشغيل بعض الدلالات المعبرة والقادرة على الأيحاء، بحيث تشكل رموزا تفهم بما توحي به لا بما تمثله، مثل استخدام اللون للتعبير عن جهة سياسية، فقد يختار اللون الأحمر للتعبير عنها، ومعنى ذلك ان اللون الأحمر المعروف ايقونياً بلون الدم، يفقد معناه الشائع، ويكتسب المعنى الجديد من خلال التكرار على وفق هندسة العرض المسرحي.

إن التكرار المدروس يؤدي وظيفته، ويغني المنجز الأدبي والجمالي بما يبلور القيمة التي يسعى الفنان أو الأديب للوصول أليها خيط التكرار شفافا صعب المسك به، لكنه يدرك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق