الفكر

الزمن في العرض المسرحي

وإذا كانت تقنيات العرض الحالية قد فاقت بقدراتها وإمكاناتها التقنيات المتواضعة التي اجتهد من خلالها كبار المخرجين في العالم، وقبلهم المؤلفين الذين كانوا يخرجون نصوصهم، فأن العرض المعاصر صارت له الحظوة الكافية لان يقدم بصيغة جمالية متفردة، ذلك لان الجمال المسرحي لا يقف عند حدود عناصر النص الدرامي وعناصر العرض المسرحي، ولا يكتفي بشكل فني لاشتغال تلك التقنية كالإضاءة أو الأدوات (الأكسسوار) على سبيل المثال.

وإنما يبتكر الجديد أو المثير المحفز للدهشة الذي يشكل المشهد المسرحي بحيث يخلق عالماً مميزاً مكتظاً بالرموز والدلالات مما يجعل الحياة على خشبة المسرح اكثر متعة وقدرة على الاستجابة لرهافة الحس والشعور والتفكير. وتكمن قيمة جمال المسرح لا في استخدامه للتقنيات فحسب، وإنما في الكيفية التي يبني من خلالها لحظة متفردة، تكتسب صدقها ودرجة مشروعيتها بوصفها كاملة الحقوق.

 وإذا كان الزمن في سردية النص الدرامي، له حدود معينة وفي المفهوم الفلسفي له صيغ ما، فأن اللحظة التي يثيرها المخرج وهو يتعامل مع الزمن، لا بوصفه بويولوجيا- حياتياً، وإنما بوصفه شعورياً وفكرياً، أنما يستدعي منه منهجاً في التفكير والتشبع الجمالي، بحيث يستطيع ان يعيد ابداع الافكار المجردة الى افكار معمقة، تلتصق بالذاكرة وتنشىء عالماً سحرياً يخترق تقلبات الحياة. ان السؤال المثار حول كيف يتعامل المخرج مع الزمن، الذي يعد عصياً وصعباً.

 إلا ان ادراكه ممكن ذلك لان إستشفاف التجربة الانسانية يسهم بتلك المعرفة. واذا ما تركنا المفاهيم الفلسفية لموضوع الزمن، فأن الزمن المسرحي يدخل في اشكال عدة وقوالب متعددة وبطبيعة الحال هناك: زمن العرض وزمن التلقي وزمن الشخصية وزمن الحدث، فضلاً عن تشظي الزمن في الحدث، فقد تستقطب احداثاً تجري (الآن) ازمنة متباعدة جداً أو قريبة أو زمن مستقبلي، واذا كان السرد المسرحي يتخذ أنساقاً زمنية متعددة من خلال تركيبة الحدث ذاته، فان زمن العرض، هو زمن بايلوجي، الا أن زمن التلقي يختلف بوصف الذاكرة وانعاشها وتقلب صور المسرحية المتبقية في ذاكرة المتلقي ستبقى زمناً آخر، وتتشكل ضمن مرجعيته وتؤسس أفقاً ارحب وأعمق للمتلقي.

ولكن كيف يستطيع المخرج ان يشكل الزمن بما يجعله مشتغلاً ومعمقاً للمفاهيم التي يطرحها، أو يجعلها حاملة للمعنى المضموني الفكري فضلاً عن الجمالي؟ هل يمكن للمخرج والحالة هذه اعادة صياغة الزمن، ان كان صعب التفسير الا انه ممكن الادراك؟ هل يستطيع ان يجعل المتلقي متمكناً من صورة الزمن في حالة تشظية الى مكونات شعورية مثلاً، وهل تسهم تقنيات المسرح: الاضاءة، الموسيقى، الازياء، المنظر، الادوات، المكياج… ألخ في تشكيل معنى الزمن في العرض، في لحظة من لحظات تدفق العرض، بوصفه تياراً جارفاً.

وهل يمكن ان تستوقفنا لحظة جمالية عارمة وهي تمرق لثوان وتتمركز في الذاكرة!؟ ان مخيلة المخرج وخياله وثقافته ووعيه وتجربته وتصوراته قد تتأسس على كيفية تصميم تلك اللحظة الجمالية الخارقة في العمل المسرحي، انها لحظة متولدة وطاغية وتنغرس في الصورة المسرحية وتتشكل من خلالها، فهي ملتصقة ونابضة بالحياة ومتدفقة لانها عالم غاية في التكثيف والنقاء والوعي وتشكل جوهر الجمال الأخاذ الآسر.

فهل يستطيع المخرج خلق واعادة خلق الزمن المسرحي؟ هل يستطيع خلق (الآن) وما يجري في اللحظة الراهنة باعتباره القوة المهيمنة القادرة في تشكيل عوالم جديدة مستقاة من رحم الاحداث، ومن ذات الزمن؟ الا ان التعامل مع الزمن جرى بطريقة صاغ منها المسرحي لحظة التألق الشبيهة بالفانتازيا، ذلك لأن تجمع اكثر من مرجعية وتدافع اكثر من تصور، لتركيب عالم اللحظة وجعلها خارقة للسياق التقليدي، هو نوع من تبئير أزمنة مكتظة وزجها بأتون لحظة اشراق نورانية، لتكشف عن الجهد البارع والصياغة الفنية والقيمة الجمالية للمخرج. واذا ما افترضنا ان الزمن يجري، وهو كذلك، فهل يمكن ايقافه؟ بايلوجياً يعد امراً مستحيلاً، اما جمالياً فيعد امراً ممكناً.

ذلك لأن الفن المسرحي لا يفترض وفي اكثر حالاته الطبيعية أوالواقعية، الا تشكيل زمنه، ان اللحظة الجمالية المتفلسفة هي لحظة مصممة وليست عفوية، انها اشبه بعملية المخاض الطويل قبل الولادة، فما بالنا بولادة عمل مسرحي، أنه المخاض الاكبر من المخاض، والجمال المتفلسف الأكبر من الفلسفة، لانه يعيد نسق الأفكار المجردة ويجعلها محسوسة ومدركة ويقبلها العقل ويتأثر فيها المتلقي وجدانياً.

فهل يمكن ان تتوحد تلك اللحظة الجمالية المتألقة وتجعل من الزمن وآلية اشتغاله على المسرح، عنواناً للافكار والمضامين، مثلما هو تنظيم للوعي البشري، باعتبار الفنان متقدماً على مجتمعه، قادراً على بلورة الافكار الاكثر نضجاً وقيمة وبالتالي حاملاً لطقوس التعامل الزمني الممكنة؟ ان المخرج يستطيع تقديم حكايات منسية، أو يخلق جذوراً درامية لظواهر حياتية أو يجعل من العرض المسرحي تركيباً فنياً ويخلق خيطاً من تيار الفعل بما يذيب تلك التراكيب ويصهرها في قالب درامي تتقبله الذائقة، ومع ذلك فان الزمن صعب، زمن العرض المسرحي والتعامل معه، اشد صعوبة، فقد يكون في رحم مشهده مثالاً: عدو يستبيح امراة ويتم الاعتداء عليها جنسياً، فهذا المشهد قد لا يستغرق دقائق.

فما بالنا بالأستباحة الجماعية عندما ينفرد الجند بنساء قرية كاملة. ان ذكاء المخرج دفعه، لان يستخدم المشهد الأول، المتعلق باعتداء الجندي- العدو على المرأة ويستخدم الاضاءة بالقطع، واذا بنا امام اربع نساء يتأوهن ويتوجعن نتيجة استباحة جند العدو لهن. ويلاحظ ان كلا المشهدين قصيران، الا ان التعامل مع الزمن جاء نتيجة من نتائج الكشف عن الاستباحة، وتحديداً للمرأة الأولى التي تم الاعتداء الجنسي عليها، وكانت رمزاً للمرأة.

اما المشهد الثاني، فأن الاستباحة جماعية من دون الحاجة للعودة الى ذات تركيب المشهد، تأوهات النساء واشارات الممثلات الى البطون، وسقوطهن على الارض، ذلك شكل التدعيم المطلوب لتأكيد تلك اللحظة. ان التعامل في صيغة بنية العرض، من حيث الاختزال والاشارة السيميائية للاستباحة، اضفى قيمة جمالية للعرض، وخلق بتلك اللحظة،فالتعامل الزمني بين المشهدين، هو الكشف عن الرابطة- الفعل الدرامي- بوصفه الجامع الشامل لكل الافعال حتى لتلك التي تشكل خرقاً للفعل الرئيسي، الا أنها تنتظم وتتوحد في الصورة المسرحية، لانها الصورة التي تقبل التحشيد والضم.

ان الزمن عصي، لاشك في ذلك، الا ان امكانات المخرج وقدرته في خلق الوشيجة تعد قائمة وممكنة لان الزمن ليس التسلسل للاحداث مثلما هي، وقد لا يكون الزمني المنطقي مطلوباً في عرض من العروض، وأنما خرق المنطق، وايجاد منطق فني جمالي يعد أس العملية الفنية. والتعامل على هذا المستوى، يتيح المجال لامكانية خلق عالم اكثر ديمومة وتأثيراً، متسم بالتوحد بين الافعال ومع ذلك يتشكل الخرق لان الجمال المسرحي افق مشرع للخيالات الخصبة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق