الفن ومنهج البحث العلمي
إن البرامج التخطيطية المعنية بتطوير مجتمع من المجتمعات، معنية بالبحوث سواء كانت نظرية بحتة، تطبيقية، عملية، أم ما يمكن ان يطلق عليه بالبحوث الجمالية- المعنية على وجه الخصوص بالموضوعات الجمالية للفنون: مسرحاً، تشكيلاً ……. وغيرها من الفنون وما أنبثق منها.
وقد إنبرت الجامعات في مختلف ارجاء العالم لتطوير ملكات البحث العلمي من أجل ضم واستقطاب موضوع الفن، بأعتبار المنهج العلمي يشكل ارقى درجات التنظيم في تطوير الفكر البشري، منذ سعي الانسان في بواكيره الأولى في المستوطنات ما قبل التاريخ، عندما وجد العديد من التساؤلات، وإجتهد لايجاد الاجابات المختلفة ازاء الظواهر الطبيعية الماحقة لوجوده بوصفه انساناً ومن اجل طمأنة نفسه المرتعبة مما يحيط به.
إن خلق الدفاعات الذاتية تطور لدى البشر، بالأساطير والخرافات والحكايات، وتعددية الآلهة وتنوع وظائفها واختلافها، والتزلف إليها.
جاء ذلك تعبيراً عن معرفة تعد طفولية من زاوية عصرنا، ومن رؤيتنا للكون والعالم والحياة، الا أنها شكلت الجذر المعرفي، الذي سرعان ما تطور عبر الحقب التاريخية والحضارات الكبرى، وبلوغ البشرية مستوى من التفكير والتمحيص اتاح لها ايجاد المسوغات المقبولة منطقياً للظواهر الطبيعية والاجتماعية والنفسية، وبذلك، تقلصت دائرة التكهنات الكبرى، وانخرط الكثير من المعارف في دائرة الفلسفة- بوصفها سؤالاً عن الوجود، الى دائرة العلم، بمختلف ضروبه، باعتبارها وصلت للاجابة عن الاسئلة المؤرقة التي عانت منها البشرية. ان التفكير التأملي، نما وترعرع وسط الالغاز والخرافات والاحاجي، الا أنه اثبت نفسه منطقياً من خلال العقول الكبيرة التي صممت اتجاهات في المعرفة وكانت استنباطية، اي خلف مقدمات كبرى وأخرى صغرى، وصولاً الى النتيجة. ومعنى ذلك، ان المنطق صار طريقاً واضحاً للتفكير، بغض النظر، ان كان صحيحاً أم خاطئاً، الا أنه يعتبر مسلكاً تأمليا، قابلاً للمراجعة وللقبول والدحض. وبالفعل جاء بعده التفكير الاستقرائي المعني على وجه الخصوص بالأجزاء والجزيئات وصولاً الى المقدمات الكبرى.
ان اجتهاد العلماء لتطوير صيغ جديدة لم يتوقف، وكان آخرها المنهج العلمي الذي دمج تفكيري الاستنباط والإستقراء، وبذلك اتسعت رقعة المعرفة واكتسب العلم درجة اعلى من التعميم على نتائجه، وبذلك انضمت تحت عباءة العلم المعارف المتعددة وازداد المنهج العلمي دقة ورسوخاً وتجذراً في عمليات طرح التساؤلات وتصميم الفرضيات والبرهنة عليها ايضاً.
ان آليات المنهج العلمي في تطور مستمر، مواكبة لتطورات الحياة، وقد يكون العكس صحيحاً، فالمنهج التجريبي يكتشف الجديد في المعرفة العلمية ويطور على ضوئها الحياة.
واذا كان المنهج العلمي بهذه الدقة، كيف يتفق مع طبيعة الفن والميل الأكيد فيه لعملية خرق السائد والتفرد؟ بكلمة أدق، الخروج عن نظرية التقنين والسيطرة، وهذه تتعارض بهذا القدر أو ذاك مع المنهج العلمي الذي يسعى للتعميم. الا أن سؤالاً آخر يثار ومفاده: أ جميع النتائج التي يسفر عنها البحث العلمي في الموضوعات المختلفة سواء أ كانت في العلوم الطبيعية أم التطبيقية أم العملية موثوق بها لدرجة الثبات؟ أ ليس هناك نظريات كبرى دحضت وأخرى: (نيوتن وغاليلو)، ألم يبتكر (فرنسيس بيكون) طريقة في المنهج العلمي، نقلت المعرفة الى ابعاد جديدة؟.
إن النظريات والقوانين، ليست مقدسة، لا يجرؤ باحث على الخوض فيها لا بل قد يعمل على دحضها علمياً أو تأكيدها من جديد. فالمعرفة العلمية ليست مغمضة العينين، أنها منهج يشق طريقه بقوة وصرامة وتحد ولا يقف صاغراً امام حدود المسلمات .
وإنما يعمل بمبدأ الشك من أجل ازاحة ما يساور الباحث من قلق وليصل الى يقين أعمق وأرسخ، كل ذلك يزيح الضبابية عن المعرفة وما يحيط الحياة من ظواهر وما يلتبس في الحياة والعالم.
وإذا كان المنظور العلمي للعلوم الطبيعية والتطبيقية والعلمية على هذه الصورة؛ فكيف يكون الفن موضعاً – والحالة هذه – للمنهج العلمي؟ وها هنا، لابد من الاشارة الى سعي الاتجاه النقدي السيميائي الذي اجتهد لجعل الفن والأدب ضمن نطاق المعرفة العلمية، والدراسات التي تناولت الموضوع من وجهة نظر السينمائيين، حاولت تخطي المنظور النقدي الإنطباعي، والتاريخي والاجتماعي، وانما وضعت بؤرة النص- والمقصود بالنص المنجز الفني والجمالي- تحت مجهر الفحص الدقيق بغض النظر عن وجهة نظر الناقد والمبدع. فالمنجز الجمالي، وجهاً لوجه امام آلية الفحص والتدقيق، وبالتالي اعطاء صورة واضحة لكليته من خلال الكشف عن حقيقة حركية جزئيات النص والتوصل الى وشائج ارتباطها ونمط العلاقة فيما بينها، والصورة الجنينية التي تحملها، بمعنى آخر: ان اكتشاف النص يعني خلخلته وتفكيكه للنص ذاته لمعرفة معناه.
إن ظهور دراسات من هذا النوع للفن والأدب وبهذه الصرامة اسهم باستخدام المنهج العلمي الدقيق للفنون، ومعنى ذلك البحث بالفن بوصفه ظاهرة، الا أن الباحث ليس آلة من الآلات وانما هو انسان، يتأمل، ويفكر، ويجتهد ويعمل خياله فضلاً عن درايته ومعرفته بحرفية البحث العلمي. لهذا، فان دقته في الملاحظة وحصافة عقله في جمع البيانات، وخياله في اكتشاف العلاقات ومعاييره الدقيقة المستنبطة من خزين معرفته وما اسفرت عنه قراءاته ومناقشاته وحبه واستماتته من اجل بلوغ الحقيقة، كلها، عوامل مساعدة في ضم الفن الى المنهج العلمي من غير تحيز او تجن ان الباحث يسعى للوصول الى النتائج وبالتالي للتعميم، إلا أنه تعميم مؤقت، ويندر وجود تعميم نهائي، لان الفن يتسم بالحركية والتفرد في جوهره، بوصفه شكلاً من اشكال التعبير الجمالي. الا أن صيغة المنهج العلمي، اكسبته رسوخاً اكبر وشرعية في الاضافة الى المعرفة وها هنا تكون المعرفة ترقياً بالذائقة الجمالية والوعي الفني، وتطويراً للمهارات، وهذا الأمر ليس بهين على الاطلاق لانها اسهامة بجعل الحياة في عين البشرية اكثر جمالاً وعمقاً وتأملاً يتوازى في صيغه واشكاله مع تأملات العلماء في سائر العلوم المختلفة، عندما يقدمون جهدهم وبحوثهم في التطوير بوصفها اضافة من اضافات الحياة.
وتأسيساً على ما تقدم، فأن الفن وبموضوعاته كافة ينبغي ان يدْرَس وفق المنهج العلمي، وان كانت الفنون مستبعدة باعتبار اخضاعها لقوانين المنهج العلمي صعباً، فان مرونة المنهج من جانب ومرونة الموضوع الفني من جانب آخر، يسهل امر تأطيرها علمياً، وهذا لا يمنع من التطلع الى مناهج علمية جمالية تتسع مفرداتها لضم الفن بصيغ منهجية اكثر تطوراً وأعمق تحليلاً وأرسخ قدماً في اكتشاف النبع الثر للفن من خلال منهج علمي جمالي، وبتقديري الشخصي، فأن السبب الجوهري في ذلك يعود للإرث الفاصل بين ابداع الفن والعلم وكأن العالم لايتمتع بخيال الفنان،او أن الفنان لا يتمتع بدقة العالم.