التّجارة الإلكترونيّة في تونس بين الموجود والمنشود
نتائج دون المأمول رغم الحوافز والتشجيعات
تؤكّد المعطيات الرسميّة أنّ عدد المؤسسات التونسية التي تنشط في مجال التجارة الإلكترونية لا يزيد عن 700 مؤسسة، حيث تبرز آخر المعطيات المتداولة أنّ نسبة المعاملات ما زالت تراوح مكانها في حدود 70 مليون دينار تونسي (نحو 35 مليون دولار أميركي)، وهي معطيات ترى الجهات المعنيّة بما فيها الحكومة أنها دون المأمول.
ويبدو أنّ النتائج المسجّلة بخصوص التجارة الإلكترونيّة لم تكن إلى حدّ قريب جدّا ترضي المسؤولين الحكوميين ولم ترض أيضا طموحات الفاعلين في قطاعات التّجارة والبنوك والماليّة ، وهو الأمر الذي دفع وزيرة التّجارة في حكومة المهدي جمعة نجلاء حروش، للإعتراف بأنّ التّعامل وفق صيغة التجارية الإلكترونية لم يرتق للمستوى المطلوب بما يقتضي التّرفيع في قيمة المعاملات من خلالها بنسبة 50 في المائة سنويا، وذلك عبر مضاعفة عدد الشّركات التونسية بالاعتماد على البوابات التّجارية الكبرى.
وقد شهدت التجارة الالكترونية في تونس تطوّرا خلال العشريّة الأخيرة يمكن وصفه بـ “السّريع” مقارنة بالعشريّة التي سبقتها لكنّه يبقى نسبيّا، وقد اكتسحت هذه التجارة بالفعل المواقع الالكترونية المختصة في جميع المجالات على اختلاف أنواعها وتنوعت منتجاتها وعروضها خاصة على صفحات التّواصل الاجتماعي، وقد أثبتت آخر عملية سبر للآراء أجرتها وزارة التجارة أن 78 في المائة من التّونسيين أبدوا استعدادهم للقيام بمشترياتهم عبر منظومة التجارة الإلكترونية، غير أن هذه التجارة التي بدأت تعرف إقبالا كبيرا تشهد عراقيل كبيرة خاصة على المستوى التشريعي والقانوني، وتخوفا لدى المستهلك خاصة من آليات الدفع الالكتروني.
لكن رغم وفرة العروض التي ساهمت في إنجاحها مواقع التواصل الاجتماعي فان عدد المؤسسات التونسية التي تنشط في مجال التجارة الإلكترونية لا يتجاوز 700 مؤسسة، حققت خلال كامل سنة 2013 معاملات في حدود 70 مليون دينار فقط كما أن عدد المؤسسات التونسية التي تتعامل مع مواقع التجارة الالكترونية لم يبلغ سوى 2700 مؤسسة وذلك لعدة اعتبارات ممّا حدا بالدولة ممثلة في الحكومات المتواترة إلى الذهاب في طريق استشراف سياسة بدأ الإنطلاق في تنفيذها، والمتمثّلة في مشروع أطلق عليه اسم “خارطة الطريق تونس الرقمية 2018”.
“تونس الرّقمية 2018 “: التّنظير يستوجب التّطبيق
تعوّل الجهات الرسميّة كثيرا من خلال مشروع ” تونس الرقميّة 2018 ” على تعزيز العمل بمنظومة التّجارة الإلكترونيّة وتعميمها على كلّ القطاعات الإقتصاديّة والتجاريّة وغيرها، هذا المشروع الذي كان أعلن عنه “توفيق الجلاصي” وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكنولوجيا المعلومات والاتصال في حكومة المهدي خلال لقاء إعلامي خصّص للحديث عن الندوة التشاركية حول المخطط الوطني الاستراتيجي لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصال “تونس الرقميّة 2018″، والتي احتضنتها مدينة قربة أيّام 30 و31 ماي و1 جوان 2014 بحضور 130 شخصية من المعنيين بالشأن الرقمي من قطاع عام وقطاع خاص ومجتمع مدني وجامعيين وخبراء.
وصرّح الوزير وقتها بأنّ النّدوة عرفت مشاركة مسؤولي الانظمة المعلوماتية وأصحاب القرار في عديد القطاعات التّنموية على غرار السّياحة والتّجارة والثّقافة والمالية والتّعليم والصحة والشؤون الاجتماعية والادارة مفسّرا ذلك بأنّ التكنولوجيا تهمّ جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية وتخصّ كلّ الفاعلين ولا يقتصر الإهتمام بها على وزارة التّكنولوجيا فحسب، وأكّد “الجلاصي” أنّ كلّ الأطراف المتداخلة، بما فيها الحكومة، ملزمة ببلوغ 9 آلاف مليون دينار كقيمة مضافة للقطاع مع موفى سنة 2018 ورفع حجم صادراته من 950 مليون دينار الى 4 آلاف مليون دينار وبلوغ 25 الف موطن شغل سنويا بإحداث 80 الف فرصة عمل على مدى 5 سنوات وربط ثلاثة أخماس العائلات التّونسيّة بشبكة الأنترنات والوصول الى نسبة نفاذ الى السّعة العالية عبر الاتّصالات الجوّالة تقدر بـ 50 بالمائة.
وأفاد المسؤول الحكومي أنّ برنامج “تونس الرقميّة 2018” الهدف يرمي إلى أن تكون تونس مرجعا عالميا في المجال الرّقمي ومنصّة رقمية ووجهة تكنولوجية بحيث تصبح الخدمات الإلكترونيّة هي الغالب في المعاملات من خلاص فواتير وإرسال وثائق أو سحبها أو إجراء “بيوعات” أو عقد صفقات تجاريّة عن بعد دون الحاجة إلى التنقّل إلى المقرات الإداريّة للمؤسسات، ويشار إلى أنّ “ندوة قربة” أثمرت 44 مشروعا تتمحور حول 3 محاور تنموية هي تطوير البنية التحتية الاتصالية وتطوير الاستعمالات وتطوير الصناعة الرقمية على أنّ 15 مشروعا من بين جملة تلك المشاريع تخصّ الدفع الالكتروني والدفع عبر الجوّال والتّعليم عن بعد والسياحة الالكترونية والخدمات الصحية عن بعد والتجارة الالكترونية والخدمات اللوجستية عن بعد والخدمات الثقافية الالكترونية.
وينتظر المعنيّون بالتجارة الإلكترونيّة من أشخاص ماديين ومعنويّين بمؤسسات عموميّة وخاصّة، ينتظرون الشّروع في التطبيق الفعلي لما ورد في مضمون برنامج مشروع “تونس الرقميّة” والذي يتّفقون على أنّه سيفتح الأبواب أمام تنشيط الحركيّة التجاريّة عبر الوسائط الإلكترونيّة بشكل يساير مقتضيات العرض والطلب الذي باتت عجلته تتسارع في الأسواق والفضاءات العالميّة الكبرى والمتوسّطة وحتّى الصّغرى، لكن “التجّار الإلكترونيين” لم يخفوا مخاوفهم من تفشّي ظواهر “التحيّل الإلكتروني” التي تبرز المؤشرات والوقائع المسجّلة أنّها استفحلت في كل المجالات.
مطلوب تشريعات “حمائيّة” صارمة ضدّ “التحيّل الإلكتروني“
لئن أولت تونس منذ سنة 1997 أهمية خاصة لتنمية التجارة الإلكترونية واقتصاد المعرفة، فأحدثت لجنة وطنية للتجارة الإلكترونية، كما أصدرت في شهر أوت من سنة 2000 قانونا يتعلق بالتجارة والمبادلات الإلكترونية، وأنشأت الوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية، وهي خطوات ممهدة لتطوير هذه النوعية من التجارة، إلا إن عدة أطراف اقتصادية في تونس ما تزال تبدي مخاوفها من الاعتماد الكامل على التجارة الإلكترونية، خاصة على مستوى العقود على اعتبار أن المشرع التونسي لم يتعرض إلى تعريف عقود التجارة الإلكترونية صلب تنقيح بعض الفصول.
وفي مجلّة الالتزامات والعقود بمقتضى قانون 13 جوان 2000 ولا حتى صلب قانون عدد 83 لسنة 2000 المؤرخ في 09 أوت 2000 والمتعلق بالمبادلات والتجارة الإلكترونية الذي أشار في الفصل الأول منه أنه “يجري على العقود الإلكترونية نظام العقود الكتابية من حيث التعبير عن الإرادة و مفعولها القانوني، وصحتها وقابليتها للتنفيذ في مالا يتعارض و أحكام هذا القانون”. من خلال هذا الفصل فلقد أراد المشرع التونسي إخضاع مفهوم العقود الإلكترونية إلى مفهوم العقود العادية الرضائية الملزمة للجانبين والتي يعتبر العقد فيها تلاقي الإيجاب والقبول، لكن الطبيعة اللامادية والافتراضية لعقود التجارة الإلكترونية تجعل منها عقودا مختلفة لها خصوصيات تخرج بها عن المعتاد وهو ما يستوجب إتمام المنظومة القانونية القديمة ببعض أحكام جديدة تستلزمها الثورة المعلوماتية وتطور التكنولوجيا.
ويطالب العديد من أصحاب المواقع الالكترونية التّجاريّة حاليّا بإرساء منظومة قانونيّة “حمائيّة” تتسم بالنجاعة والصّرامة خاصّة في تعقّب مجرمي “التحيّل الإلكتروني” وذلك لتبديد مخاوف الحرفاء التي ما انفكّت تتزايد في السنوات الأخيرة، والتي تعود أساسا إلى الخوف من أن تطالهم الجرائم الإلكترونيّة وعمليّات التحيّل التي انتشرت على نطاق واسع وشملت جميع أقطار العالم، وهو الأمر الذي يدفع بالحرفاء إلى التعامل التجاري خارج إطار منظومة الدّفع الإلكتروني وإنّما من خلال التوجه مباشرة إلى مقر الموقع أو الفضاء التجاري أو الصناعي أو غيره، والدّفع نقدا واستلام المنتج على عين المكان مما يغيّر من نشاط المؤسسة ويضعها في صعوبات تناقض مبدأ انتصابها المتخصّص في المعاملات التجاريّة عبر الوسائط الإلكترونيّة.
وفي ظلّ هذا التطوّر النسبيّ المتراجع للتجارة الإلكترونيّة وفي ظرفيّة دوليّة دقيقة يمرّ فيها الاقتصاد العالمي بثورة معلوماتية هائلة تعزى إلى التطور المتنامي في تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، فإنّ أن هذه النّوعيّة من التّجارة أصبحت بالنسبة للدول النامية ضرورة ملحة لزيادة إسهامها في التجارة العالمية وكذلك لتطوير قطاعاتها الإنتاجية الوطنية وإتاحة فرص متزايدة لرفع معدلات نموها الاقتصادي وحتى يتحقق ذلك، لا بد من العمل على توفير متطلبات ومقومات التجارة الإلكترونية مع تذليل التحديات والعقبات للحاق بركب الاقتصاد اللاحدودي العالمي، هذا الأمر الذي لاحظ عديد الخبراء والمختصين وأهل القطاع أنّه يقتضي جملة من العوامل والعناصر الأساسيّة التي يستوجب الإسراع بتوفيرها والتي يطالب القطاعيّون بأن تضمّن صلب استراتيجيّة وطنيّة متكاملة وناجعة للنهوض بالتجارة الإلكترونيّة.
سياسة وطنيّة متكاملة للنهوض بالمبادلات التجاريّة الإلكترونيّة
يطالب المتعاملون عبر آليّة “التّجارة الإلكترونيّة” بإسراع الجهات الحكوميّة المختصّة بتفعيل التوّجهات العامّة للسياسة الوطنيّة الخاصّة بالنهوض بالمبادلات التّجاريّة الإلكترونيّة، وإدراجها كعنصر أساسي ضمن المخطط التنموي المرتقب 2016 – 2020، على أن يتمّ التركيز على جملة من النقاط المحوريّة في مقدّمتها “توفير محيط ملائم يساهم في تيسير وتنمية المبادلات التجارية الإلكترونية” و”تنمية قدرات المؤسسات في مجال التحكم في الآليات المتطورة للاقتصاد اللامادي” و”حفز وتشجيع اعتماد المؤسسات الصغرى والمتوسطة للتجارة الإلكترونية” بما يساهم في تعميم استعمال التجارة الإلكترونية في المؤسسات الاقتصادية.
كما طالب أهل الشأن السلطات المعنيّة بتوفير جملة من الضمانات من قبيل “توفير بنية أساسية متطورة ومندمجة للاتصالات ذات سعة عالية” و”توفير وسائل دفع إلكترونية تتماشى مع متطلبات الاقتصاد العالمي والوضعية الحالية للنقديات والأسواق (ء-دينار، دفع عن طريق البطاقات البنكية، بطاقة المنحة السياحية، منظومة تحويل الأموال الضخمة )، وذلك بالتّوازي مع تسخير الموارد البشرية ذات الكفاءة العالية والقادرة على استيعاب حركة التطور العلمي والتكنولوجي” و”توفير الإطار القانوني الملائم على غرار قانون التجارة والمبادلات الإلكترونية والقانون التوجيهي للإقتصاد الرقم” بالإضافة إلى اعتماد التجارة الالكترونية في الصفقات العمومية في الحالات الممكنة ودعوة المؤسسات العمومية إلى استعمال منظومة الدفع الالكتروني.
كما يرى القطاعيّون ضرورة مزيد تطوير المعاملات الالكترونية في السّوق الدّاخلية من خلال تنمية المبادلات بين المؤسسات المحليّة ومع الحرفاء والرفع من حجم المعاملات التجارية الالكترونية مع الخارج، وكذلك إحداث عدة مواقع جديدة للتسوق والعمل على تعميم مواقع الواب التجارية في الفضاءات التجارية إلى جانب وضع برنامج يرمي إلى متابعة وتنمية عدد المؤسسات المنخرطة في التجارة الالكترونية، وتوفير حوافز ماليّة وهيكلة جديدة لتوسيع المبادلات التجارية الالكترونية بالإضافة إلى استمرار العمل على تكوين الخبراء العدليين في مجالات الإمضاء والمصادقة الالكترونية والتوثيق الالكتروني.
وتلعب التجارة الالكترونية دورا مهما لدعم الصادرات المحلية والتعريف في الخارج بالمنتجات التونسيّة ذات الجودة حيث يجمع عديد الخبراء على أن النهوض الفعلي بهذا النّوع من التّجارة يتطلّب تضافر الجهود بين مختلف الهياكل والمؤسسات الوطنية خاصة في عملية التعريف بها، وذلك بتكثيف الحملات التّحسيسية للعموم للتشجيع على استعمال الخدمات الالكترونية، والسعي إلى إزالة مسبّبات الخوف لدى الحرفاء بما يفضي إلى ترسيخ فكرة نجاعة دور التّجارة الالكترونية في النهوض بالاقتصاد الوطني وتوسيع نطاق المنافسة مع المنتجات العالمي.