آراء

الإنقلاب العسكري في تركيا :أيادي الشعب البيضاء تتفوق على الدبابة الخضراء

ما زلت لم أجد جوابا مناسبا حول سر اختيار هذا اليوم بالضبط من طرف دعاة الانقلاب العسكري، ولماذا تم اختيار الزمان المحدد، ولكن هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة بحول الله، لنعرف السر في اختيار هذا الوقت بالضبط، لأني لا أستبعد أن هناك مناسبة تاريخية أو حدثا في ذكرى الشعب التركي خلال هذا اليوم.

الخارطة الجيوسياسية والجيوإستراتيجية لتركيا

ربما قبل الحديث عن تركيا بالضبط وعن الانقلاب من الداخل، نمر مرور سريع حول الخارطة الجيوسياسية والجيوإستراتيجية التي أصبحت تركيا تمتلكها في السنوات الأخيرة، حيث نجد أن الاحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية تسارعت في تلك المناطق وأصبحنا نسمع عن الشرق الأوسط الجديد، وكل ما يحصل من تغيرات في الخارطة السياسية في البلاد العربية والاسلامية، مرورا بسوريا، فمصر واليمن ولبنان وفلسطين، العراق، السعودية، ايران، كل هذا البلدان التي شهدت الصراع والتوتر الكبير سواء منها ذات البعد العسكري أو ذات البعد العرقي والمذهبي والطائفي.

هذا بشكل عام ما يحاط بتركيا من أحداث تتسارع بشدة، وكان لتركيا دور فيها كبير من خلال التدخل في العديد من النقاط الساخنة في هذا الأمر، بداية من القضية الفلسطينية ثم مرورا بالقضية السورية، والحرب العراقية ومشكلة اقليم كردستان، ثم التعامل مع التنظيم الارهابي المسمى بالدولة الاسلامي (داعش)، ومناصرته للانتخابات المصرية التي توجت الرئيس المعزول مرسي، كل هذه الأحداث جعلت تركيا تتمتع بمكانة دولية واقليمية خاصة هامة في هذه البلدان، وأصبحت محورا لا يمكن الاستغناء عنه في هذا الميدان.

ربما كل هذا الأمر لم يخف كثيرا الدول الغربية التي تود تسطير حياة الأمم والشعوب على حسب منوالها وعلى منظورها، فلعل أهم ما كان يقض مضاجعهم ويقلق نومهم، هو التطور التركي السريع في كافة الميادين والجوانب، سواء على الصعيد الاقتصادي او على الصعيد السياسي والاستراتيجي، مرورا بجانب هام جدا وهو التصنيع العسكري الذي برزت في الدولة التركية أخيرا، حيث شهد قطاع التصنيع الحربي في تركيا قفزة نوعية في السنوات العشرة الاخيرة، فبعد ان قامت المؤسسة العسكرية التركية بسد حاجتها من المنتجات العسكرية محلية الصنع بدأت الشركات التصنيع العسكري بتصدير منتجاتها الى دول العالم.

وفي هذا السياق تشير صحيفة ستار الى أن حجم الصادرات التركية من الصناعات الحربية في 2012م بلغ 60 مليون دولار فيما ارتفعت الصادرات  في 2014م الى 1.6 مليار دولار.

كما تشير الصحيفة الى أن تركيا أصبحت تصنف على أنها في المرتبة السادسة عشر عالميا من حيث تصديرها للصناعات الحربية.

تركيا قوة إقتصادية وعسكرية

ومن الجدير ذكره ان الصادرات العسكرية التركية سوف ترتفع بشكل كبير في السنوات القليلة القادمة بعد عرض المروحيات التركية و طائرات بدون طيار للأسواق العالمية، وتتبعنا أيضا مؤخرا انتاج تركيا للبارجات الحربية والغواصات العسكرية.

ولن استطيع ان اقوم بجرد الانجازات التي قامت بها الحكومة التركية بقيادة طيب رجب اردوغان، ولكن المتتبع للشأن التركي والقارئ قليلا لسيرورة العالم والشرق الأوسط سوف يعرف هذه الانجازات المتنوعة على كل الاصعدة والجوانب، ولكن سوف أعرض بعضها: فان تركيا من ضمن المراتب العشرين الأولى من حيث ترتيب دول العالم اقتصاديا، والدولة رقم عشرة في تصنيف القوة العسكرية، أما في الجانب العلمي والبحثي فلقد تم اختيار ست جامعات تركية ضمن قائمة أفضل 500 جامعة في العالم (جامعة الشرق الأوسط التقنية 375، جامعة إيجة 467، جامعة حجة تبة 489، جامعة غازي 493، جامعة أنقرة 496، جامعة إسطنبول 497).

وربما من أهم العوامل التي جعلت الدول الغربية تترصد تركيا هي فتح سياستها الخارجية على الدول العربية والاسلامية بشكل خاص، حيث منذ وصول حكومة أردوغان للحكم اصبحت هناك العديد من الشراكات والتواصل والاتفاقيات مع الدول العربية والاسلامية، واصبحت هذه الدول سوقا مفتوحة للمنتوجات التركية، وايضا في تواصل كبير في العديد من النواحي، وأصبحت تركيا أيضا وجهة سياحية ممتازة وتحتل مراتب عالمية أولى.

هذا بشكل عام ومختصر حول الأوضاع التركية الخارجية خاصة، وكيف احتلت تركيا في فترة وجيزة مكانة دولية هامة، جعل العديد من الدول الغربية تتوجس منها خيفة وتعمل لها الاف الحسابات، وهو ما رأيناه من التدخل الأمريكي والروسي والألماني في السياسة التركية الداخلية أو الخارجية، سواء فيما يتعلق بالمسألة الكردية أو القضية الفلسطينية، ولاحظنا مؤخرا موقف تركيا وروسيا وغيرها من الأحداث والقضايا المتسارعة التي جعلت من تركيا دولة عدوة للعديد من الدول الكبرى، وهو ما يجعلها وسيجعلها عرضة للعديد من العمليات داخل اراضيها من أجل تعطيل مسارها الريادي، ومن أجل توقيف حكومتها التي تحاول ارجاع السيادة العثمانية الاسلامية على تلك الاراضي.

صراعات وقضايا رشوة وفساد

ولعل من أهم العوامل التي تقض مضجع الحكومة التركية وأيضا مسار النمو التركي هي مسألة الظهير الموازي كما يدعونه، أو جماعة الخدمة أو بشكل مباشر مجموعة فتح الله غولن، وهو ما لاحظناه من خلال التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عن بداية محاولة الانقلاب العسكري وصرح قائلا : “ان جماعة فتح الله غولن هي من وراء هذا الانقلاب العسكري”، ربما صرح الرئيس التركي بناءا على تقارير مخابراتية لديه ولكن لحد الآن لا نستطيع ان نجزم حول هذه النقطة، رغم ان الاختلاف بين وشاسع وواضح بين الحكومة التركية وجماعة فتح الله غولن التي لديها جذور واسعة داخل الجيش التركي وأيضا داخل الادارة التركية.

ولقد برز الصراع بين الطرفين بشكل كبير جدا خلال السنوات الأخيرة، حتى ان جماعة فتح الله غولن كانت قد نشرت العديد من الأخبار حول فساد الحكومة التركية الحالية، وقضايا الرشوة والفساد وغيرها من الادعاءات التي كان قد اطلقها هذا التيار ضد الحكومة التركية وضد الرئيس بشكل خاص، ولكننا لحد الآن مازلنا لا نستطيع الجزم القاطع حول تورط هذه الجماعة في هذا الانقلاب العسكري ولكن حول ما ستعرب عنه الساعات القادمة.

هذه قراءة سريعة جدا حول الوضع التركي، ولكن ما استنتجناه من هذا الأمر هو قوة الشعب السلمية التي جعلت من القوة العسكرية تتراجع عن قراراتها وتضع اسلحتها وتسلم نفسها، فمنذ الدقيقة التي دعا فيها الرئيس التركيب اردوغان الشعب التركي للنزول الى الشارع والتوجه نحو الساحات العمومية والمطارات من أجل مواجهة الجيش المنقلب، أصبحت قوة الجيش في حالة من التدهور والتخاذل بسبب وجود الشعب الأعزل امام بنادقه وهو ما جعلهم يتراجعون، والنقطة الأساسية في هذا الموضوع هو أن الديمقراطية التي كرستها الحكومة التركية تجاه شعبها جعل منها محل ثقة لدى شعبها وبمجرد حصول اشكالية مثل هاته كان الشعب هو الحامي الأول للشرعية قبل ان تدخل البلاد في حالة من الفوضى والدماء.

النقطة الثانية التي يمكن توجيهها هو انه يجب على الحكومة التركية اعادة النظر في العديد من النقاط في هيكلها العسكري والمخابراتي وادارتها السياسية الداخلية والخارجية، ويجب ان تحل المشكلة مع جماعة فتح الله غولن بشتى الوسائل الممكنة لكي لا تسقط في ثغرة اخرى مثل ما وقع البارحة (15 جويلية2016).

إنقلاب عسكري …ولكن!!!!

من خلال تتبعي لليلة الانقلاب العسكري البارحة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي لفت انتباهي الكثير من التعاليق التي تمجد الانقلاب العسكري في تركيا، ولكن المضحك المبكي أن الكثير من هؤلاء لا يعرفون شيئا عن تركيا ولا عن السياسة التركية، وانما ينصبون العداء المجاني وفقط، ولعلهم ناصبوها اكثر بعد الحادثة الاخيرة التي وقعت عندما قامت الحكومة التركية بتطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، ولكن الوقوف عند هذا الحدث مازال لم يتضح بعد وربما هي تخدم المصالح التركية والاسلامية من وجهة نظرهم، وهذا التطبيع وهو على الاقل كان ظاهرا واضحا مبينا للشعب التركي، ولكن ماذا عن الدول العربية الاسلامية التي تدعي انها تناصب العداء للعدو الصهيوني وهي تعقد الاتفاقيات الليلية والمعاهدات السرية حتى لا تستفيق شعوبها من سباتها وتتظاهر بأنها دول شريفة تجاه القضية الفلسطينية، وفي هذه النقطة بالضبط نستدل بحادثة من السيرة النبوية وهي صلح الحديبية عندما تنازل رسول الله عليه الصلاة والسلام على الكثير من الامتيازات حتى انه تنازل على تسمية رسول الله من أجل مصالح بعيدة المدى كان ينظر لها عليها الصلاة والسلام، لذلك يجب علينا ألا نستعجل في هذا الموضوع، ولعلنا رأينا بعد هذه السياسة التي انتهجتها تركيا كيف قامت بإرسال العديد من المساعدات للقطاع في غزة، وتسهيل اجراءاتها بعد التطبيع، لذا يجب علينا ان لا نحكم على الموضوع في وقته الحالي.

وفي الاخير نقول ان كل الدول التي تمر بطريق النمو وخاصة منها الدول الاسلامية، سوف تجد كل العراقيل والصعوبات التي تحاول تقويض نموها تحاول توقيفها، وهو ما رأيناه بأم أعيننا في الدولة التركية.

ولكن المثابرة والعزم على الوصول الى حالة من التطور والرقي وفي حالة من جو الديمقراطية والتمدن الحضاري سوف يجهض كل تلك المحاولات الخارجية عن طريق توحد قوى الشعوب والسلطة.

وفي الأخير تحية خالصة وقوية الى الشعب التركي الأبي الذي أعطى لنا درس قوي في كيفية التعامل مع المخربين بطريقة سلمية وراقية.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق