الفصل الثالث من رواية دخان فوق الماء
تلك هي مظاهر الفاقة المزرية يكشف عنها المكان ادركت في اعماقها ان تلك هي أول سياط الغربة ، فرشتان من الاسفنج الرخيص أحداها ينام عليها طفليها والآخرى المفروض تنام عليها مع زوجها سالم ، في زاوية الصالة ثلاثة حقائب ، وثمة مطبخ صغير يفتح فمه ليأكلها فهو يخلو من أي معدات تستخدم في الطبخ ، كأنها في صحراء متروكة بعيدا عن واحة الحياة ، قالت في صوت مسموع : ” هذه هي حلب ..! ” ، كانت بداية فيها كل الألم والتعب وذاك الحادث المرعب في حدود العراق الملتهبة بالفوضى عندما حاصرت مجموعة مسلحة الباص الصغير وهجموا على الركاب وأخذوا مالديهم من اموال ومصاغات ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا أحد المسافرين ثم لاذوا بالفرار ، حادثة مرعبة ولكنها تتكرر كل يوم ولا أحد يعلم كيف ستتطور الأوضاع ، الحادث الحدودي هو امتداد لما يحدث في العاصمة بغداد ألم يتم خطف والدها وظل شهرا لا احد يعرف مصيره حتى اتصل احد الخاطفين وطلب فدية وتم دفعها وعاد والدها ” حبيب ” ، الفوضى تضرب اطنابها في كل مكان و العراق يغرق في الفوضى غير الخلاقة التي جاء بها الاحتلال ، نظرت الى ولديها حسن ورجاء وهما يستغرقان في نوم بعد تلك الأحداث المرعبة التي بقيت في ذاكرتيهما ، كانت قد دثرتهما ببعض ملابسها ، نظرت إليهما طويلا ثم انفجرت باكية .
وسرعان ما فتحت غطاء شعرها ومسحت دموعها وكتمت كذلك صوت بكائها في تلك اللحظة برزت صورة والدها أمامها وتذكرت كيف كان يحنو عليها ويحبها بشكل آسر أكثر من أشقائها ، كانت معبودته وبمثابة صديقته ، بكى كثيرا في لحظة وداعها كان يشعر ان روحه تخرج من بين أضلاعه ثم كفكف دموعه ولكن الحسرة ظلت تمزقه ، وقال للذين يقفون بالقرب منه :
-لماذا تهرب كريمة من العراق …؟ ماذا فعلت …؟ هل هي أو زوجها من أركان النظام المباد …؟ لماذا تمزق قلبي وتذهب بعيدا …؟
ثم اقترب منها متوسلا :
– كريمة الغالية أرجوك تراجعي ولا تسافري الى حلب ، قرارك يمزق قلبي يا ابنتي ..!
غطت عينيها بمنديلها وبكت بمرارة وهي تخطو نحو باب الباص المفتوح ، عندما عانقته كانت تشعر بلهيب جسده ينتفض من الألم ، أدركت صدق كلماته فعلا كانت روحه تغادر جسده ، قال وهي تبتعد عنه عدة خطوات :
-كريمة الغالية تذهب بعيدا ، أي قدر أعمى أصابنا ..؟
ذاك الموقف الذي تستحضره الآن أشعل في قلبها الحسرة وأكثر من السابق انهمرت دموعها على لوعة والدها الطيب وهي كل دنياه ، هو يخسر الآن البنت الذكية التي كان يقول عنها ” كريمة تعادل عشرة رجال ، البنت الحكيمة ، المدبرة ، المتأنية دائما في رد فعلها على من يواجهها ، الكاظمة لغيظها ، هذه البنت لا تتكرر صورتها في أشقائها من الولد أو البنات ، هي نسخة متكررة بشكل أفضل من جدتها التي كانت كلماتها نبراس رجال العشيرة ، ذات الرأي السديد والشجاعة النادرة .
كل تلك الخصال تتصف بها كريمة ، ضاعت من عالمه ربما إلى الأبد ، ستكون بعيدة عنه ، كان لايهدأ إذا مرّ يوم ولم يراها أو يسمع كلامها الممزوج بالمرح و السخرية عما يدور في العراق ، كريمة نهران من المرح والجد ،لو تغير تكوينها الانثوي لكانت من احسن الرجال ، يسمع شكواها من سلوك زوجها سالم معها ومع انه يدرك هي على حق لكنه يعارضها ، لا يريد ان يشجعها على اتخاذ قرار ضاريدرك قوتها لو أرادت ان تفعل ، يعلم علم اليقين ان مسيرتها مع سالم ربما لن تدوم ، قربهما منه ومتابعته صمام آمان لاستمرار حياتهما الزوجية تحت سقف واحد ،عندما ينفرد مع أمها يوجه لها اللوم على تسرعها في توريط كريمة بهذا الزواج الذي ولد ميتا ، كيف مرت أيام كريمة ” شطب الريحان ” وتحولت وسط همومها لتكون حطب النار في تفاصيل زواج مليء بالمشاكل والعيوب مع زوج ماكر ليس له ملمس يتقلب في الحوار ويداهن في الكلام امام الجميع ويجعلها خاسرة ومقصرة وهذا يغيضها كثيرا و تحزن وتتألم بصمت ” صمتها هو أفضل تعبير وحالة مواجهة اتخذتها فيها الاحتقار الواضح ” .
لكنها وضعت في رأسها قرار الخلاص ، تحاول نسيان ذاك الصخب في عالم العمل بتواصل علاقاتها مع النساء الباحثات عن التجميل ، عالم النساء عالم غريب يضج بكل ما لايتوقعه العقل ، قصصهن غريبة فيها من الشذوذ الكثير يسبحن في بحار من الكذب والزيف و يتبارين في ذكر علاقاتهن الجنسية الغريبة بينما هي المتزوجة تعيش مع زوجها وبينهما جدار ، لم تكن تشعر مثلا بالمتعة معه خلال حالات المضاجعة ، وعندما يحاصرها تؤدي ذلك بشكل لا تشعر معه بغيرالقرف وعدم الرغبة ، يجبر الإنسان أحيانا على التطامن والقبول بالذي لايرضاه وتلك أقدار الناس هكذا رسمت ، لا أحد في هذا الكون يختار مصيره أو يحصل على ما يتمنى ، وكما يقولون القسمة والنصيب والمكتوب على الجبين لابد تشوفه العين.
ذاك ما سمعته عن جدتها ومن نسوة آخريات متقدمات في العمر ، زاد في يقينها ان كل شيء مرتب في عالم الغيب ، وظلت تلك الفكرة مسيطرة عليها تشغلها كثيرا اقتربت من بعض الذين لديهم إطلالة على عالم الطالع وعلم التنجيم وقراءة الفنجان .
نظرت نظرة ثاقبة في الكتب التي تتحدث عن التنجيم والفلك وذات يوم حصلت مصادفة مهمة في حياتها عندما نظرت في فنجان احتسته إحدى زبوناتها وصارت تفسر الاشكال والخطوط التي تركتها بقايا القهوة في الفنجان ، تطلعت الى وجه المرأة وقالت بشيء من التردد ….!
يتبع