صناعة النفس
الدكتور خالد عبد اللطيف
كانت وظيفة (صناعة النفس) سائدة لدى فئة من الناس لا يُزَاحَمُوْنَ في وظيفتهم؛ وهذا إنما هو: لقلَّتِهم، ولعلو همتهم، ولقوة عزيمتهم، فَمِنْ شابههم سلك دروبهم. ومَنْ لا فلا.
وهذه أسطرٌ كاشف فيها معاني (صناعة النفس) من خلال مباني الأحرف، ومؤصِّلاً وظيفة (صناعة النفس) موافِقَاً أصول الشريعة، مراعياً أُسُسَ التربية.
معنى (صناعة النفس):
قد يتبادر إلى الذهن معنى لـ(صناعة النفس) غيرُ مُرادٍ لي؛ ودفعاً لتلك المبادرة أُبيِّنُ المعنى من (صناعة النفس) وهو: سعيُ الإنسان الجادّ نحو إظهار نفسه، والكشف عن مكنوناتها ومهاراتها التي تؤدي بها نحو عالم الإبداع. مع اعتماده على ذاته وما كان خافياً فيها من قُدَرٍ.
وهذا المعنى هو من بنيَّات الفكر، وبَوْحِ الخاطر.
قواعد (صناعة النفس):
لـ(صناعة الن. فس) قواعدُ وأصولُ بها تُتْقَنُ وتُحْكَمُ (صناعة النفس)، وبدونها، وحال تخلُّفِها يكون الخلل، ويُخَيِّمُ الفشل.
وهاهنا أمورٌ أربعة هنَّ أصولٌ لـ (صناعة النفس):
الأول: معرفة قُدُرَاتُ النفس:
إن الله – تعالى – متَّعَ الخلق بقُدَرٍ ومواهبَ؛ وهذه المواهب والقُدَرُ متفاوتةٌ بين الناس، وهم فيها متباينون. فإذا عرف الإنسان قُدُرَاتُ نفسِه أحسن استعمالها، وانشغل بها عن غيرها. ومعرفة قُدَرُ النفس مُرْتَكِزَةٌ على رَكِيزَتَيْن:
الأولى: عدم رَفْعِ النفس فوق قدْرِها:
حيث ترى وهو كثير مَنْ يُخادع نفسه ويُلْبِسُها لباس الزور فيُنزلها منازل كبيرةً عليها، ليست هي من أهلها ولا قَرُبَتْ من أحوالهم.
الثانية: عدم إهانتها وإنزالها عن قدرها.
وهذه كسابقتها في الكثرة والانتشار.
وأعني بقُدَرِ النفس: ما تعرف النفس أنها ميَّالَةٌ إليه، وتتيقَّنُ أنها تُنْتِجُ فيه أكثر.
الثاني: حُسْنُ إدارة النفس:
إدارة النفس تعني: قُدْرَةُ الفرد على توجيه مشاعره وأفكاره وإمكانياته نحو ما يريد تحقيقه، وما يصبو إلى تحصيله.
فَحِيْن يستطيع الإنسان أن يوجِّهَ خواطره ومشاعره نحو ما يسعى إليه في حياته يكون بدءُ (صناعة النفس).
وإدارة النفس فنُّ له أصوله وقواعده ومهاراته، فليس هو أمرٌ بالهيِّن، ولا بالشأن السَّهل.
الثالث: تزكيةُ النفس:
تزكية النفس هي: تنميتها، وتطهيرها.
فتنميتها تكون بـ: الطاعات، والفضائل.
وتطهيرها يكون بـ: التخلِّي من الآفات؛ المعاصي، سفائل الأخلاق.
هذان أُسَّان في تربية النفس وتطهيرها.
الرابع: التدرُّج:
النفس توَّاقةٌ نحو الدَّعَةِ، وساعيةٌ إلى الخمول والسُّكون، فإذا أراد صاحبها أن يُبْدِعَ في (صناعة النفس) فلا بدَّ له من نقلها من مواطن الركود والدعة إلى مشارف العلو والرفعة.
وهذا يحتاج إلى أن يتدرَّج بها صاحبها من الدُّوْنِ إلى العلو؛ شيئاً فشيئاً قليلاً قليلاً.
وسرُّ ذلك: أن في التدرُّج تنقُّلٌ مُمَهَّدٌ يستدعي تقبُّلَ النفس لتلك الصناعة.
والعكس ذو آفة يعرفها من أدرك حقيقة ذاك السر.
الخامس: الحكمة:
إن (صناعة النفس) تقتضي التعامل بالحكمة مع النفس؛ فلا تُجْهَد، ولا تُطْلَق لها الأزِمَّة.
فيراعيها في موطنين:
الأول: موطن الإقبال نحو المعالي؛ فيغتنم تلك الفرصة لتربيتها، وتنميتها.
الثاني: موطن الإحجام عن الفضائل فيستعمل معها سياسة القيادة من جهتين:
الأولى: الترغيب؛ فيرغب نفسه بفضائل الأفعال، ومقامات الكمال.
الثانية: الترهيب؛ فيرهب نفسه بعواقب الدُّنُوِّ، ويُبَيِّنُ لها مساوئ الأعقاب.
طرق (صناعة النفس):
لـ (صناعة النفس) طريقان مهمان:
الأول: طريق (الذات):
وأعني به: أن يكون الإنسان هو الصانع لنفسه؛ وذلك من خلال القواعد الخمس السابقة.
الثاني: طريق الغير:
وأعني به: أن تكون (صناعة النفس) للإنسان من خلال من هو خارج عنه أي: عن نفسه من: صاحب، أو عالم، أو أبٍ، ….
مجالات (صناعة النفس):
المجالات كثيرة ومتعدِّدَةٌ، ولكن ما يهمُ هنا هو ما يتعلَّق بالأمور المتعلِّقة بالإسلام؛ وهما مجالان:
الأول: مجال العلم:
فإن أغلب الناس الصَّالحين ممن أعملَ نفسَه في العلم: طلباً، وتعليماً، وتأليفاً…
لكن الأمر المُؤْسِف أن يكون من يشتغل بالعلم دائمَ الصعود والظهور على أكتاف أشياخه، ملازماً لتقليدهم، حَذِرَاً من إبداء أي رأي له خَشْيَةَ عدم المُوَافَقَة. وهذه سلبية لا إيجابية؛ إذ الواجب على الإنسان أن يكون مُسْتَقِلاًّ بنفسه، مُعْتَمِدَاً عليها.
وهذا هو شأن كثير من العلماء ما أظهرهم إلا هم، سعوا جادِّيْن نحو(صناعة النفس) فأبدعوا وأنتجوا، في حين أن غيرهم ممن سيطر عليه الخوف ما بَرِحَ مكانه.
ولا أعني بكلامي هذا إسقاط ما للعلماء من مكانة وتأثير في نفس الإنسان، وإنما أُريدُ أن يكون الإنسان ذا رأي مُعْتَبِرَاً لنفسه قَدْرَاً ووزْنَاً، ويَنْفَرِدُ بالسعي في تَحْصِيْلِ العلم بعد أخذ مفاتحه وأصوله على مشايخه.
الثاني: مجال الدعوة:
وهذا أكثر وأشهر من سابقه.
و(صناعة النفس) فيه تكون بأن يَعْتَمِدَ الإنسان على ذاته في تبليغ الدعوة، ونشر الدين في أوساط الناس.