الفن المتكامل في الإبداع المسرحي
لهذا أولوا إهتمامهم بالعرض المسرحي, بدءا من التمرينات المسرحية ,وجعلوها منها طقسا له قيمته, وشددوا على الوظائف المناطة بكل عضو من اعضاء المشهد التمثيلي ,وساهموا بالتدقيق : بالمنظر أو بالازياء, ومنهم من شدد على الضوء وأكتشاف الجديد والمؤثر بما يخلق عالما جماليا يتميز بالعاطفة والاشتباك ويسهم بجعل الصورة المسرحية أكثر دهشة وأوقع آثرا والبعض استرعته الموسيقى وما تحمل من طاقة في التعبير وقوة في صياغة اللوعة الداخلية للأبطال, وقسم آخر ركز على الضوء بوصفه, فضاء للروح وايقاعا لكل الهواجس والانفعالات في بلورة التكسرات والتداعيات في المواقف الدرامية , ومنهم من أشتغل على المؤثرات وعّدها وسيلة لتكامل الجو العام ,وبعض المخرجين من استخدم التقنيات كافة, لخلق التكامل في العرض المسرحي .
إن كثافة الاشتغال ودقته , والإضافات العميقة التي صنعها كبار المخرجين في العالم , شكلت عالم المسرح المزدان بالروعة والجمال بوصفه يتميز بالانتظام والدقة والإبهار بالجديد. فالإضافات الإخراجية من مختلف المخرجين في العالم ,كانت رؤية تمثل رؤية المخرجين للكون والعالم والحياة, معبر عنها بالإضافات الجليلة , التي عبرت حدود بلدانهم , وصارت إضافات معرفية جمالية , لجعل هذا العالم المكثف – المسرح -والمضغوط الى حد كبير بأبهى صوره ممكنه.
وبطبيعة الحال , كان ذلك بمثابة التوصيف الواضح لعمل المخرج الباحث الذي يقود الطاقم ويوجهه من أجل أحداث الأثر المطلوب في المتلقي – الجمهور- ومنها بدأت شرارة العمل الاخراجي,وبدأت الخطوات الاخراجية أكثر اتساعا واشد وتيرة وصرامة , فظهر ( ستانيسلافيسكي) الذي أولى إهتمامه بالفعل الداخلي لاشتغال الممثل ,وعبد الطريق امام الممثل المجتهد في عمله الدؤوب ,من أجل اعادة خلق الشخصية,ليتمكن من اشاعة الوهم ,وبالتالي التأثير بالمتلقي .
و(ميرهولد ,فاختنكوف , اخلبكوف ) مثلما ظهر ( ادوارد كوردن كريك) المخرج الانكليزي العبقري . لم يعد الفنان –المخرج – الحقيقي يكتفي بما أنجز في عالم الفن المسرحي.
وإنما ضل الهاجس يخالجه باكتشاف غير المألوف ,وكأنه يناجي حلما يوتوبيا, ويريد استدراجه في عالمه الجمالي – المسرح,ويقدمه للمتلقي.ان أشتغال المخرج على هذه المناطق الحميمية , وجعل المتلقي الضمني في رؤيته ومنظوره الجمالي للعمل الفني , ساهم بتفعيل عمل المخرج, وأقتحامه فضاءات جديدة , باحثا عن المتعة الجمالية الخالصة , وفي الوقت ذاته مستحضرا عالم الثقافة الثر.
والتساؤلات التي تثار هنا عديدة وأهمها : ما الذي يدفع المخرج لهكذا مشقة !؟ اليس الابداع تقديم عرض متكامل لإشاعة الفرح وإسعاد المتلقي !؟ وقد تثار تساؤلات أخرى غيرها, إلا ان المخرج الباحث لايلتفت لها , ولا يعدها من الامور المسوغة التي تنظر الى الفن عامة والمسرح خاصة , على انه سلعة , أو تجارة تقتصد الربح المادي والمعنوي ,أو ترتقي بإسم الفنان ليصبح نجما وبذلك يكتسب شهرة قد تدر عليه المال والأعمال ويكون بذلك شخصية إعتبارية لها الحضوة والحضور في مجتمعه الذي أثنى عليه.
ان الفنان المخرج الباحث , يتسامى على الحياة وضروبها وفي أحيان كثيرة يتغافل عنها , لان منظوره للحياة , ووجوده الكوني , يحتم عليه أن يشق طوق اللهاث وراء السراب ,ويدفعه للغوص في العميق الغائر في قعرها , يتملكة اليقين بصدقه مع نفسه وهو يتقدم يوما بعد آخر ,و ان روحه الملتهبه, وعقله القداح , ونفسه الباحثة , عن الراقي والجميل , والمدهش والبديع, متأصلة فيه, تغترف من ينابيع الولّه الذي لاتنطفيء جذوته , ولا يخبو مهما مرت به المحن وان أستعدته الحياة بظروفها القاهرة , والمحطمة والمقزمة لذاته . وقد يكون الباحث المستميت من أجل تقديم الجميل المغاير ,طمعا بأن يؤرخ لنفسه حق السبق في الجديد : موضوعا , فكرة , صورة , معالجة , قيمة ينوه لها…..
وغيرها , طمعا في القادم الاخر من المخرجين القادرين على تجاوزه واكتشاف الشيء الجديد الاخر الذي لم يكتشفه ساعتها, وبذلك سيدرج إنه أضاف للبشرية شيئا , عاش في كنف الحياة وجعلها أكثر بهاء وأعطر شذا , وتواصل مع بني فنه, وقدم جُل تجربته, صورة يتذكرها المتلقي , ولاحقا القاريء في التاريخ الجمالي لبلده, أو في بلدان المعمورة, بوصف المعرفة والإضافة لكل البشرية وان انطلقت من بلد ما.
المخرج الباحث طموح للغاية , لكنه طموح رجل العلم في ميدانه, العارف بأسرار فنه ,وهو لايميز نفسه عن الطموحين من العلماء وفي الميادين كافة, الا في كونه يفلسف الحياة جماليا- وبذلك يتفوق على الفلاسفة- ولايتوانى عن ذكر ذلك , والتطرف الى أنجازه الذي قد عانى أو لم يزل يعاني من قلة الحماسة في قبوله أوعدم أخذ مساحته الحقيقية , في فضاء الفن أو المشهد الثقافي ,والمخرج الباحث لايكتفي بما حقق , ويسعى لان يحقق الحلم لا لوحدة وانما يشكل جماعة تؤمن بما يؤمن, ويعمل معهم ساعات دون كلل أو ملل , لاينتظر شكرا ,بل تقديرا لما قام به , عرفان معنوي , يتألق فيه وذكر طيب يسجل فيه أضافته. وقد ينسف المخرج الافكار والصيغ التي عمل عليها اياما وشهورا , وكل ماقام به ويعود ثانية للمربع الاول في بحثه ,يفكر ويتأمل, يناقش أفكاره تاره مع الاخرين , أو يحيا لجدال ذاتي مع نفسه ,لأن شكاً ما ساوره في مسألة ابداعية, فتتشكل محطات في مسيرته الفنية, ولكل حقبة منها لها انجازها وخصائصها, والأرضية التي يقف عليها .
وفجأة يثب الفنان المخرج من لحظة السكون الى الحركة, من ايقاعه الحضاري الهادئ الى ايقاع ضاج وصاخب,من جدال طال مع النفس الى كيفية أخرى , مليئة وعاجة بالجمال المكتشف في ثناياها, وقد أمتلأ روحا متدفقة , وصورا متعددة ,وكأن المسرح ومساحة الفضاء المتاح امامه , تتحول الى مساحة كونية, مختزله , مرمزه , موحية , بألوان الحياة والأفكار غير المرئية .
إلا ان عقله القداح,وفكره الثاقب ,قد بلغها بشغفه واجتهاده ,ومثابرته التي لاتعرف غير الاستمرار.
وما لحظة السكون التي يمر بها المبدع , ماهي إلا زمن مسكوت عنه,يرى فيها الصور والأشكال ويتحسس الانفعالات ويسمع موسيقى الحوار والأصوات والنغمات , تخترقه و تتلبسة , حتى تبدأ لحظة الشروع ومثلما وصف( برجسون) الفنانيين قائلا : (( بأنهم يروا ويرونا , ما لانراه عادة من أنفسنا )).
يندفع الفنان المخرج الباحث, بقوة أكبر وعزيمة اشد وهو يطوي الايام فوق الايام ,من اجل ان تتجلى الصورة المشرقة للعمل الاخراجي الذي يشتغل عليه .
فنان جامح لايتوقف, وقد يبطيء الخطى حينا , او يصاب بالتراخي حينا آخر لكنه يبقى جامحا , عنيدا , وان سكت حينا عن الحركة والبحث والعمل الجاد الشاق , انما هي اشبه باستراحة المقاتل الذي يعاود بعدها العمل بقوة وطاقة عجيبة. الباحثون عن سر الجمال الخفي في أعمالهم المسرحية , يزرعون القيم ويمجدون الانسان , ويضيفو المعنى الجليل لقيمة تواجدهم ومن يتواجد معهم , انها السيرورة الكامنه في البحث القيًم ,عن الحياة , واوضاعهم وما ينتابهم , انها اشكالية الحرية التي تستمطرهم قلقا وزادا وحاجة لان يكونوا في الفلك الكوني , باحثين عن انفسهم , خارج أطر الحياة أحيانا , في عالم آخر يتسع فضاؤة. فالفنان الباحث يتحول الى انسان كوني لانه يغذي ذاته بالفكرة , بوصفه جزءا من الكون , فذاته.. كونية البحث والعطاء .
لأنها عطشة للالتحام والتواجد وخرق الستر الصماء والاسوار الخانقة , من هنا تتأتى شفافية الباحث الفنان الجمالي الجليل , يسقط الحجب الثقيلة , ويكتشف روحه الشفافة الرقيقة , فالمعرفة والبحث عنها , تتطلب روحا لاتعرف البغضاء , نقية , ساحرة , تطمر الشوائب في مستنقع النسيان , ويبقى الديدن الذي لاتنازل عنه,هو الجميل والمنطقي معرفيا , وشدوه للروح, وعبق الأكتشاف وتورده , والعطاء الذي لايعرف الحدود ولا التوقف الا بفعل خارجي , هو الموت . لكن لإضافات تبقى, وان غادر المخرج الباحث الحياة .