دراسات وأبحاث

البيئة والفن

إن البيئة بوصفها مفهوما يرتبط وبالإنسان مثلما يرتبط الانسان بها,وحتمية العلاقة أدت الى ظهور طرائق واساليب تعزز ديمومة المتغيرات من جهة وقدرات الانسان من جهة أخرى, فإذا ” كانت البشرية في طفولتها تعتمد اعتمادا تاما على الطبيعة , فان الانسان لم يكف قط عن التأثيروالتغييرفيها”(1) وبطبيعة الحال, تؤثر فاعلية البيئة وتغلغلها في حياة الانسان بشكل شرطي في كل ماينتجه .

وفي خضم نشاطاته الابداعية والجمالية والفكرية وغيرها. ويمكن تفسير نظم المعرفة لجماعة من الجماعات البشرية وفق صيغ الإشتراطات البيئية لها, وبذلك تفتح باب المعرفة للجهازالمفاهيمي ونزوعه المستمر نحو البحث و الاستقصاء لأجل ايجاد بيئة أكثرمواءمة , مما يتيح سيطرة أكبر على الطبيعة , والبيئة تمثل دائرة واسعة التأثيرفي الحياة الاجتماعية , مما يستدعي بلورة مفاهيم وعلاقات وعقائد ونظم حضارية لتلك المجتمعات , وبذلك يكون الفن جزءا لايتجزأمن العلاقة الصميمية بين الانسان والبيئة , بوصف الفن وسيلة من وسائل التعبير عن ارهاصات الحياة البشرية بكل ما تحمل من دوافع واستجابات .

إن ذلك يقود الى نتيجة تنسجم انسجاما جوهريا بين الفن ومظاهر الوعي الثقافي لذلك المكان والزمان (2) .

وفي ضوء ماتقدم يمكن الوقوف عند مفهوم الفن وارتباطه بالانسان والتصاقه بحياته بصوره تامه لافكاك منها , وبالتالي يعد الفن من خلال موضوعاته التي يتم التطرق فيها للحياة الاجتماعية والتي تكون تعبيرية وبذلك” يكون الفن لغة ان لم يكن لغات عديدة , والواقع ان لكل فن واسطته ( او ادواته ) الخاصة , وهذه الواسطة جعلت لتلائم لونا خاصا من التواصل أوالنقل . وكل واسطة تنبئنا بشيء , لاسبيل الى الافصاح عنه بلسان آخر افصاحا جيدا مكتملا ” ( 3) ان التراكم الحضاري على مر العصور والحقب الزمنية , دفع الى النموالفكري والثقافي والعقائدي, وادى بدوره الى تحولات ومتغيرات في جوانب البيئة المختلفة ويمكن القول : ان البيئة باعتبارها مفهوما يضم الانظمة الطبيعية والاجتماعية والفكرية والثقافية والعقائدية , أي ما يمثل خلاصة الوجود الانساني : الروحي والمادي.

ان ذلك يشكل امتدادا مضافا للبيئة الصناعية , باعتبارها نتيجة من نتائج التفاعل الخصب بين الانسان والبيئة ,و يبلور صورة للتكيف والامتداد والتحدي , تعبيرا عن فاعلية السلوك البشري وما أنيطت به من قيم بوصفه الدافع عن الذات البشرية , والحفاظ عليها والاستماتة من أجل بقائها . ان دافعية الانسان من أجل السيطرة على الطبيعة جاءت تعزيزا لارادته واكتشافا للمجهول , ولهذا كوّن الانسان بيئة اصطناعية ليرفل بالحياة .

 ان دراسة المفاهيم الحضارية لمجتمع من المجتمعات , يساعد في تفسير مؤثرات البيئة في ذلك المجتمع وبالتالي فأن كل ماينجزه الانسان اثناء تقدمه التأريخي هو محاولة من أجل اثباته لكيانه وادراكه لذاته .

وفي ضوء هذا الإطار سعى الإنسان الى استخدام آليات المعرفه والادراك المتراكم لبلوغ درجة أعلى من التكيف داخل البيئة , والأمر ذاته سيفتح الباب على مصراعيه في تفحص التكيف المتفرد وانعكاسه على النتاج الحضاري , وواحدة من أوجهها هو الفن , ذلك أن المفاهيم الاجتماعية والثقافية والروحية في الموروث الحضاري سوف تتجلى في صياغة رؤية فنية تستقى أبعادها من ذلك الانعكاس.

وبهذا الصدد قال بيكون : ” ان الفن هو الانسان مضافا الى الطبيعة “(4) .

وبالتالي فإن التعمق في اكتشاف البيئة ,يمنح مناخا اكثر سعة لمعرفةالانسان والحياة وما آلت اليه تطورات عديدة فأن ” الإنسان لا يجد في أي شيء ما هو ثابت ومحدد تحديدا صارما , فكل شيء بالنسبة لهذا الوعي يمكن ان يتحول الى شيء آخر ” (5) .

لكن وعي الانسان بالبيئة يرتبط بدرجة تمثله للمكان , والمكان متعدد الأوجه ,وتشكل االبيئة المحور الاساس فيها,لهذا يتميز المكان بالثبات والرسوخ والهيمنه والسطوه بينما البيئة تعد وجها من أوجه المكان سواء أكان مكانا صحراويا أم جبليا ام جليديا ام سهليا وبطبيعة الحال يمتلك المكان تلك السلطة التي تسفر عن أوجه متعددة للبيئة وتحدد بدورها حياة الانسان وما يمكن أن يقوم به , ومن المؤكد اختلاف المناخ بحسب البيئات والظروف وبالتالي تنوعت واغنت البيئات وشكلت تنوعا اجتماعيا وثقافيا .ان الطبيعة وما تملكه تشكل سطوة أخرى على الانماط الاجتماعية , مثلما تعبر عن عادات وتقاليد وموروث وثقافة سواء دونت ام بقيت شفاهية .

إن التباين في الطبيعة وامكنتها , أسهم بتوليد بيئات تتسم بالغنى والثراء ,فالتباين المكاني , خلق تباينا بيئيا , واأخير أوجد انماط اجتماعية ونفسيه وثقافيه بشرية متفردة ومتباينة ايضا ,اذ تتغلغل البيئة جينيا بالانسان , وينعكس ذلك على شكل مفهوم الحياة , وترتبط الفنون في الصيغ التي يتبناها مجتمع ما , تلك التي تشكل أسا عميقا لمفهوم الثقافة السائدة اما اذا ذهبنا حيث المصريين القدماء ( الفراعنه ) .

 فان فكرة الخلود قد تجلت بوضوح كبير في ثقافتهم وطريقة تعبيرهم وبالتالي تشكل انعكاسا للبيئة التي طغى عليها الاحساس بالوحدانيه وبفكرة الرابية والبحث عن الأبدية , فأن تجانس الأفكار وتضادها , جاء من وحي الطبيعة ذاتها , المتصلة بفكرة الموت والحياة , وبكلمة أدق , بالموت والحركة بوصف الوجودة له دورة واحدة( ” لفترتين تتخللها ظاهرة معينة هي ما نسميها” بالموت ” او ” عدم الحركة ” , وما الموت الا وسيلة أنتقال الى الفترة الثانية الساكنة من الحياة الواحدة المتصلة “((6) .

ويلاحظ ان تلك السطوة المكانية والبيئية في عقائد البشر , التي تشكل الثقافة السائدة آنذاك , وبالتالي نوع التأثير والتغلغل المكاني في طرائق تفكير البشر . واذا كانت هناك قوة غامضة للمكان , او قوة واضحة في تحدي الارادة البشرية , فان ذلك جزء لا يتجزأ من صميمية وجود الانسان اذ ” لا يمكن للذات أن تدرك نفسها أو تشعر مالم تكن هناط مقاومة تلقاها ” (7 ) . ويتضح جليا , ان الارادة البشرية للمجموعات التي شكلت الحضارات كانت متحدية ضمنيا للطبيعة / المكان , وهذا بدوره يقود الى سلسلة متراكمة من الانجازات والتضمينات والجهد والكد والنضال من أجل تعميق وترسيخ الوجود البشري وتدعيم ورص الارادة االبشرية وتدعيمها .

ذلك لأن الافق الانساني , كان ولم يزل يسعى من أجل بناء المجتمعات وان أختلفت أو تباينت , الا أن الثبات في ظل كل المتغيرات البشرية وعلى مرّ الحقب التأريخية , وهو الدأب المتأصل في البشر , في تحدي الطبيعة واكساب الانسان المزيد من الانتصارات والتحديات , وبالتالي اثبات معنى خلود الذات البشرية .وبالمعنى نفسه , فان انسان الحضارات الكبرى في التأريخ , كان اكثر تمثلا لفكرة الشرطية المتعلقة بالاستجابة المشروطة , فأذا ما أتفق على افتراض ان المعطيات المكان والبيئة هي الشرط للحياة , فأن ردود الأفعال المقابل لها يكون جوابا للشرط .

وقد التصقت الفنون القديمة بالانسان وحياتها وآماله , وما يسعى اليه فالعمارة والجدران العريضه عديمة الفتحات , تحقق بدورها بيئة ملائمة للفسيفساء والرسوم الجدرانية في الحضارة العراقية القديمة .

اما الطراز الآشوري فقد كان مبنيا على اساس المركز المطل على الخارج , فقد كانت قلاعهم غاية في المتانة والتحصين , وكانت قصورهم المرتفعة عن أرض اشبه بمدن وكانت معابدهم صوامع ( زاقورات ) تدور حول نفسها , الا أنها تصعد حتى تتصل بأعلى نقطة ممكنة بأبعاد الفضاء (8 ) .

إن ذلك تعبير عن حالة البحث عن الذات وتأكيدها , وتجسيدا فنيا لعملية التفاعل بين المكان من جانب والتعبير عن البيئة من جانب آخر .

إن النتاجات الفنية المعمارية , حاولت ايجاد صيغ التفكير الابتكاري للانسان . فقد شغلت ” فكرة الرابية الاولى , فقد كان المرء يرقى بضع درجات أو يصعد مرتفعا عند كل مدخل يؤدي من الصحن او القاعة الى قدس الأقداس ” (9) , وقد قرن ذلك بفكرة القبور الملكية , ويلاحظ من خلال ذلك , أن البيئة الثقافية تكتسب شرعيتها من خلال ماتقدمه البيئة الطبيعة من ظروف ويرتبط ذلك في حياة الانسان ويتغلغل في اعماقه ويتخذ صيغا في التفكير وبذلك تخلق استراتيجيات الانسان على وفق ما يؤمن به ويجد فيه متنفسا لأفكاره .

 وعليه فقد جعلت القبور الملكية ايضا مطابقة للرابية الاولى , فالموتى ولاسيما الملوك , يولدون في الآخر , فليس من مكان يعد في عبور أزمة الموت أفضل من الرابية , وهي من قوى الخلق حيث بدأت الحياة المنظمة في الكون , ولهذا فقد كان ضريح الملك يبنى على شكل هرم , والهرم ذاته هو التشكيل الفني للرابيه (10) .

ولم تتوقف فكرة الرابية معماريا وربما نجد صداها في العتبات والمرتفعات داخل العمارة , التي تشكل منسوبا يميز جزء عن جزء , وهذا يشكل امتدادا لفكرة الرابية بابسط صورها , ويعني هذا ان المثيولوجيا القديمة تجد صداها حتى في الحياة المعاصرة وان أتخذت وظائفا معمارية وجمالية مخالفة , الا ان التناص المعماري أو فكرة التداخل الفني تعد قائمة.

البيئة والبيئات المجاورة: ان تنوع البيئات وتجاورها وتداخلها, يشكل فسيفساء ذات قيمة جمالية وفلسفية عالية, اذ تتم تغذية الرموز الفنية بصورة مستمرة متواصلة يعطي مساحات واسعة لحيوية البيئة وتغلغلها في الفن , وقد ينعكس الامر ذاته على طبيعة التفكير الابتكاري للانسان ونوعية الافكار والتماعات تلك الافكار في المجتمعات,ان انفتاح البيئات واتساع حركتها , ما يجعل البيئات اشبه بخلايا قابلة للنمو في الجسد الاجتماعي وامكانية توالديتة.

إن الانفتاح على البيئة بعدسة واسعة , يعني انفتاحا على الرموزالتي تتضمن تلك الرؤية وفهم وتشرب البيئة في الصياغة الاسلوبية لتلك الرموز والمعبرعنها بشفافية الفنان , لايحدها حدّ , ولا تتوقف , حتى في اكثر البيئات سوءا ونفورا , الا أن الرؤية البارعة , التي تشكل حزمة ضوء وسط ركام البيئة تكشف عن الرموز ودلالاته وكيفية اشتغالها , ومهما كان مستوى الرمز : واقعيا , طبيعيا ,دينيا ,عقائديا……….الخ

المصادر بحسب ورودها : (1) محمد السيد غلاب . البيئة والمجتمع , الاسكندرية : الدار المصرية للطباعة , 1955, ص40 . (2) توماس مونرو . التطور في الفنون , ج 3 , تر محمد علي وابو دره وآخرون , القاهرة : الهيئة المصرية للكتاب , 1972 , ص 351 . (3) جون ديوي.الفن خبرة ,تر زكريا ابراهيم , مراجعة زكي نجيب , القاهرة : دارالنهضةالعربية ,1963, ص 179. ( 4) احمد رأفت عبد الجواد . مباديء علم الجمال , القاهرة : مكتبة نهضة مصر , 1983 , ص 15 . (5) جون ديوي .المصدر السابق , ص 151 . (6) لوسيف . المثيولوجيا القديمة في تطورها التأريخي , اقتبسه غيوري غاتشيف , الوعي والفن , تر نوفل نيوف , عالم المعرفة , سلسلة كتب ثقافية شهرية (146) , الكويت :1990 , ص 20 . ( 7) انطوان مورتكارت . الفن في العراق القديم , تر وتعليق عيسى سلمان وسليم طه التكريتي , بغداد : مطبعة الاديب البدادية , 1975 , ص 15 . (8) مجهول المؤلف . الطابع القومي لفنوننا المعاصرة , القاهرة : الهيئة المصرية العامة , 1978 , ص 30 . (9) جون ديوي . المصدر السابق ص104 . (10) ه . فرانكفورت . ما قبل الفلسفة , تر جبرا ابراهيم جبرا , محمود امين , القاهرة : مؤسسة فرانكلين المساهمة للطباعة والنشر , 1960 , ص 35 . (11) عفيف بهنسي . علم الجمالي عند أبي حيان التوحيدي ومسائل في الفن , دمشق : وزارة الاعلام , مديرية الثقافة العامة , د . تاريخ , ص 83 . (12) ه . فرانكفورت . ما قبل الفلسفة , تر جبرا ابراهيم جبرا , محمود امين , القاهرة : مؤسسة فرانكلين المساهمة للطباعة والنشر , 1960 , ص 35 . كتب ثقافية شهرية (146) , الكويت :1990 , ص 20 . ( 7) انطوان مورتكارت . الفن في العراق القديم , تر وتعليق عيسى سلمان وسليم طه التكريتي , بغداد : مطبعة الاديب البدادية , 1975 , ص 15 . (8) مجهول المؤلف . الطابع القومي لفنوننا المعاصرة , القاهرة : الهيئة المصرية العامة , 1978 , ص 30 . (9) جون ديوي . المصدر السابق ص104 . (11) عفيف بهنسي . علم الجمالي عند أبي حيان التوحيدي ومسائل في الفن , دمشق : وزارة الاعلام , مديرية الثقافة العامة , د . تاريخ , ص 83 . (12) ه . فرانكفورت . ما قبل الفلسفة , تر جبرا ابراهيم جبرا , محمود امين , القاهرة : مؤسسة فرانكلين المساهمة للطباعة والنشر , 1960 , ص 35 . (13) عيسى سلمان . الواسطي رسام وخطاط ومزخرف . بغداد : وزارة الاعلام , د.ت , ص 18 . . (4) مجهول المؤلف . الطابع القومي لفنوننا المعاصرة , القاهرة : الهيئة المصرية العامة , 1978 , ص 30 . (9) جون ديوي . المصدر السابق ص104 . (11) عفيف بهنسي . علم الجمالي عند أبي حيان التوحيدي ومسائل في الفن , دمشق : وزارة الاعلام , مديرية الثقافة العامة , د . تاريخ , ص 83 .

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق