الفكر

إعادة تقديم ” البنسات الثلاثة – لبرخت – في المسرح الأمريكي “

 برخت المؤلف – المخرج – كان يراقب بدقة تجاربه مقارنا مع تجارب الآخرين ، ويعمد الى تعديل افكاره الأمر الذي أفضى الى تطبيق مفهوم ايديولوجي تعليمي سياسي على خشبة المسرح ، أثبتت تجاربه ومسرحياته في القرن الماضي أنها أصدق تعبير يرسم حالة التشكك والتمزق الروحي والتضليل السياسي ، ذاك المسرح الغريب – الجديد – نشر الأمثولة وعمل على التركيز في صنع حبكة ورواية كل منهما يعتمد المعضلة الاخلاقية وفق سرد ينمو ويتقدم بواسطة مشاهد توضيحية استخدم لنجاحها في العرض والتكنيك ” مجموعات من الكورس والمعلقين والرواة والأغاني والرقصات وعناوين ومعلومات تعرض من خلال الشاشة كما وظف في مسرحياته الأجهزة والتقنية الآلية الحديثة ،تمحورت مهمة المسرح – البرختي – في تصور دور خاض للممثل في كل الفراغ مستخدما إياه للمساعدة في تحطيم الوهم التقليدي .. كانت مهمة الممثل في المسرح الملحمي ” هي أن يضع نفسه على ” بُعد ” ما من الشخصية التي يجسدها والموقف الذي كان منغمسا فيه كي يثير التفكير ويستدعي استجابة من المشاهد دون ضرورة للإيهام بالحقيقة .. مثل المسرح البرختي بحثا معمقا في السياسة والمجتمع والتاريخ والعناصر الفاعلة في كل تلك البنى بما يمثل البنية الطبقية او النظام الاقتصادي وغلب عليه الطابع التعليمي واعتبر في منهجه الدراما بمثابة فعل التمحيص النقدي للحياة في كل اوجهها ..
• اختلافات وأفكار
في المسرح الملحمي ثمة نقيض مع الذي ساد في المسرح – الكلاسي – مثلا ” على الممثل ان يقوم بعمله بموضوعية ، يجب عليه أن يتكلم بشيء من التحفظ أو البُعد أو يُعيد عملا ببطء أو يتوقف ليوضح للجمهور ، ما كان يقوم به ، من خلال هذا السلوك سيخلق الممثل مؤثر – التغريب – المطلوب سيادته في المسرح الملحمي ، اما طريقة الاخراج البريختي فهي معاكسة تماما للنمط الستانسلافسكي ،اما ف مجال الديكور توجد دعوة – ذكية – لاسقاط الجدار الرابع ويجب ان تكون الخشبة عارية تماما باستثناء بعض الادوات – فراغ مفتوح تُحكى فيه قصة ويتم تغيير ديكور المشاهد على مرآى من الجمهور المتلقي ، كما يشجع الاخراج توجيه الكلام مباشرة الى جمهور الصالة وطرح السؤال الدرامي ، والمؤلف في المسرح البرختي يني مسرحيته على سلسلة من الاحداث يضع عنوانا مكتوبا في بداية كل مشهد حتى يستبدل بعنوان اخر ومطالب بتقديم الوصف التاريخي لحدث المشهد وتعزيز الوعي بأن المشهد يدور ي الماضي وجعل الحاضر يبدو غريبا ، لمخرج يعمد الى تجميع وصف الممثلين بما يقدم حالة جوهرية لتوضيح العلاقات الانسانية وبيتها ، بينما يلتزم مصصم الاضاءة بأن تكون جميع اجهزت الإضاءة مرئية حيث يكون المشاهد واعيا لوجودها في المسرح والممثل تحت مسقط ضوئي أبيض بسيط بيحيث يبدو في عالم المشاهد ذاته ، بينما مؤلف الموسيقى عليه ان يعبر عن فكرة المرحية بشكل مستقل ، العرض المسرحي يهدف الى جعل الموسيقا والأغنية متعارضتين مع الحدث على الخشبة ..
• أوبرا البنسات الثلاث في المسرح الأمريكي
يعتمد نص – اوبرا البنسات الثلاثة – على رواية انكليزية كتبت في القرن الثامن – ترجمتها ” هافر سميث ” خصيصا لبرخت وذلك في العام 1920 – 1923 وتطورت الفكرة العامة في مسرح التغريب لتهاجم الرأسمالية بشكل عام وتحرض بشكل خفي ضد الوضع القائم في ألمانيا ، استمر عرضها 400 يوما على مسرح برلين ، ثم تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1931 بنسختين ألمانية – فرنسية كلاهما متماثل وقد احتج – برخت – قضائيا ضد الفيلم واعتبره ضعيفا شوّه فكرة النص المسرحي ، ثم عرضت المسرحية في دول عديدة منها – موسكو – باريس – نيويورك عام 1933 كما عرضت في لندن عام 1956 ، في المحاولة الجديدة لإعادة تقديمها في المسرح الأمريكي لم يتحقق الرفض الجماهيري لمتابعة ما تريد ان تطرحه فكرة المسرحية البرختية القادمة من جديد إلى – نيويورك – هي قادمة من أفياء العام 1928 ، وتلك الشخصيات الدرامية المهمة كما لو أنها تخرج من فوهات قبور مفتوحة وتفرض نفسها بقوة على عالم جديد كل شيء فيه قد تبدل عن القرن الماضي باستثناء بقاء الفضاء الرأسمالي ..! في العالم الجديد كما يقول المخرج ” كل شيء مختلف الهموم والتطلعات ، نحن الآن في عالم أنيق يفيض بسكانه ، نحن نستضيف تلك الصور الموسيقية التي تكون نسيج الدراما والجملة الموسيقية مذهلة في أوبرا القروش الثلاثة ” .. في العرض الذي تابعته كنت أرى العيون مشدودة إلى تلك المشاهد الموشاة باللحن الموسيقي السمفوني ذاك القصيد المختلف تماما ، هذه المحاولة المسرحية القادمة من القرن الماضي حيث المخاض العسير السياسي والعسكري والعلمي قد انتجت بذكاء كبير لكي توثق وتؤثر في الذاكرة الأمريكية وتجعلها بمواجهة السؤال الدرامي الكبير ..! كانت تمتلك جواز المرور للبصيرة والذهن من خلال الإثارة المتأنقة تماما ، هي تمكنت من التأثير على شاشة الرؤيا للمتلقي حيث يُقاد إلى لحظة وهم مغلفة بالحقيقة فهو يدرك أن تلك الشخصيات العديدة قد خرجت من العقل المتأمل المتوغل في حالة النسيج الدرامي البرختي ، على الخشبة تم الانتاج على ابتكارات ماكرة تكسر كل حالة للغرابة وتقترب بمنطقية من منصة التغريب ..
• في فضاء الفكرة
تنطلق الرواية من افتراض وجود حرب في قاع مدينة لندن ويتركز الفعل عندما يتخاصم اللص ماكيث ومستلم الأموال بيشام وهو صديق الشحاذ ويتزوج ماكيث ابنة بيشام – بولي – ويقيم حفل زفاف باذخ مستخدما أثاثا مسروق ، ولكن عندما يغضب بيشام يقدم بلاغا للبوليس ويتجلى العدل والقانون في شخصية ضابط البوليس – براون – وتقوم لوسي – ابنة الضابط – بمساعدة كيث على الهرب ، ألا أنه يسجن مرة ثانية عندما يلقى عليه القبض في المبغى المفضل لديه وهذه المرة توضع المشنقة في رقبته ، ولكن القدر يسعفه ليحصل على عفو من الملكة إضافة الى معاش تقاعدي .

رسم برخت الشخصيات في البنسات الثلاثة كنوع من المجرمون الذين يدافعون بجرائمهم عن النفس ، وهو ينظر إلى الجريمة بمثابة مهنة رأسمالية ونج – كيث وبيتشام – في النص يتمتعان بكل المزايا البرجوازية ، وقد لمس الجمهور النقد الهجائي الواضح والمستتر للنهج الطبقي من خلال قصة رمزية تتناول طبقتين مختلفتين – مع ان احد النقاد في المسرح الامريكي اعتبر نهج المسرحية االذي يساوي بين الرأسماليين ورجال العصابات من المجرمين يمثل مزحة ساذجة قالها السيد – برخت – وهذ يذكرنا بمقولة برخت ” إذا لم تنتصر الشيوعية السوفيتية فأن كتاباتي لا مستقبل لها “.
يرى – أريك بنتلي في كتابه الموسوم – الحياة في الدراما – ” أن برخت أول درامي كبير في التاريخ فهم التاريخ وأول درامي كبير استطاع أن يضيف إلى العبقرية الفردية معرفة أكيدة مشهودة بالإنسان ومجتمعه ، أن لدى بريخت ما يعطيه اكثر من أي درامي في التاريخ المسرحي ” استخدم في العرض المسرحي –في بردواي – الموسيقى المتناغمة مع حالة القلق والمتدرجة وفق الحالة الدرامية وهي تختلط بأصوات أوبرالية منتخبة لتجسد الفضاء العام ، دون الانتقاص من التجربة التي مضى عليها أكثر من 90 عاما وهي ناجحة في إلقاء السؤال المهم وترك الانطباع في عقول المتلقين الأمريكان ، أوبرا القروش الثلاثة تم الترويج لها في حياة – برخت – في عرض الافتتاح على أنها ستطوف العالم ولكنها في الواقع واجهت قيود اللغة والترجمة والتجسيد الدقيق ، وفي العام 1976 كانت هناك تجربة سابقة حذرة لتقديم ذاك العمل الدرامي المدهش ، من قبل – ريتشارد فورمان – في مركز لينكولن ، وكا ثبت النقاد أن تلك الجهود لم تصعد كثيرا نحو الكمال ، ولم تتمكن من منافسة العرض المسرحي لمسرح برلين انسامبل ، وهذا ما تنبهت له التجربة الأخيرة هنا ، ووضعته ضمن الاعتبار كهدف يسعى له الانتاج والتجسيد .

 حيث تم اختيار ممثلون على درجة عالية من الحرفية وتم كتابة اغاني والتجديد في وضع الألحان ، كما أُعيد النظر في الجمل الدرامية الميتة واستبعدت تماما ، مثلا الشخصية الشريرة اسندت إلى ممثل مقتدر درس بدقة خصوصية المسرح البرختي وخاصة الجانب المتعلق بتكنيك الممثل – استيفان كورت – تمكن من الوقوف على منصة النجاح ، كما في توجيهات برخت التي كتبها لمن سيمثل تلك الشخصية ” الممثل يغني ويمر خلال ذلك إلى حالة تمرد أكثر من حالة الإنسان في الوضع العادي ” ويضيف برخت ” على الممثل ان لايظهر محتوى عاطفي ينغمس فيه – بمعنى انه داخل حالة التغريب بحيث يشعر الجمهور أن الآغنية ليست أكثر من أغنية ” ..
البعض ممن عملوا في أوبرا القروش الثلاثة لم تكن لديهم الفكرة واضحة عن الفلسفة الدرامية والهدف ولكنهم كما في الجهد الموسيقي حيث تتخلى الموسيقى عن حالة البهرجة والتنويم الايقاعي والمرور الى حالة الترقيص ، في العرض المسرحي الجديد عندما دخل الممثلون في حالة الغناء تداخلت لديهم حالة الهدير والتدفق والتغريد وسيطرت ملاحظات قائد العرض المسرحي في تكامل الجو العام بين القصائد الدرامية والحركة المسرحية ، ممثل يغني – آخر يزدري حالة الأفكار العاطفية ويدفع حالة التطهير والتغريب الى عدم الوقوع في المرفوض ، وممثل آخر يمجد بالغناء حالة ما ، الغناء الشعبي المتدفق المحبب يهيمن على الخشبة .. في العرض المسرحي برزت قدرات كبيرة تشير إلى استيعاب النص بما يعيد إلى الأذهان غضب ” المانيا الفاسدة وتمزقها اجتماعيا في مرحلة العشرينات ” .

كما يلاحظ في هذه المحاولة الجديدة أنها تشكلت من خلال نسيج وتشابك للعديد من الفنون السمعبصرية وخاصة استخدام العرض السينمائي إلى جانب الفن التعبيري الإيمائي ” الممثلون في أحد المشاهد يحبوون في موكب المشي وكأنهم جثث يغطي وجوههم لون الطباشير الأبيض بينما حددت عيونهم وأحيانا أفواههم باللون الأسود ، ينظرون كما لو أنهم خارجون من المدافن والقبور ،” هذه كما رصدتها في أغلب النتاج الفكري والسمعبصري لألمانيا المحطمة في النصف الأول من القرن الماضي بفعل الهيجان والسخف السياسي والحرب في الموضع الخطأ ،” في هذه المسرحية تبدو أغلب الشخصيات تتحرك في المساحة الفارغة من الخشبة ، انها مخلوقات ميكانيكية مفرغة من الحياة ، اقرب ما تكون إلى حالة الموتى ، هم يسبحون في حالة لامتناهية من العقم والانحطاط واليباب ، اشير أيضا أن النص البرختي كما قرأته في النص الأنكليزي المترجم مباشرة عن الألمانية ” يتضمن حالات تشابك عديدة يتداخل فيها الجانب الشرير مع الجانب الإيجابي ذاك التقاطع يطلق ثقافة بيئية كاملة بشر بها برخت وغيره وفلسفتها تقول ” في عالم الاستحواذ غير المنضبط ، الموسورون يصطدمون بالمعدومين ” ذلك الإيحاء الرمزي التعبيري أفضى بالنتيجة إلى رسم لوحة انكسار ” الغول ” الألماني … وهذا يتكرر ….!

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق