الفكر

التأويل قصد المؤلف أم قصد النّص

 على وفق ما تقدم،إننا إزاء وجهتي نظر،أحداهما تنظر الى النص والأخرى الى مؤلف النص، فإياهما الأكثر قربا لحالة التأويل؟ فإن تم الالتزام بمؤلف النص،فان تعددية قراءة النص ستتعطل وتنحسر معها عملية التأويل.اما اذا أخذنا قصد النص،وهذا يعني ان القارئ أحرز مكانة اكبر في النص لا مؤلفه،وبهذا تتسع دائرة تأويله وتتزايد بناء على تنوع القراءة وقدرتها في النفاذ والتغلغل،وقد يعني ذلك،إن النص لا يمكن ان يقول الحقيقة الكاملة ولا يمكن الامساك بتنويعات ثرائه او غناه،وانما يعتمد في معرفة كنه النص وجوهره من خلال القدرة على صياغة قراءة نبهة وعميقة للنص.

لهذا فالقارئ اما ان ينزوي داخل النص وبذلك يتم تفسيره في ضوء علاقاته الداخلية،وذهب (ريكور)بعيدا:فيقول:أو يرفع انغلاق النص وبذلك يتم تأويله ان الفرق بين التفسير والتأويل،يعني الفرق بين قصد المؤلف وقصد النص،فالتأويل هو فتح دوائر أوسع لتقصي المعنى الجديد للنص والمتحقق من عملية قراءة بارعة باكتشاف سياقات جديدة تسهم بخلق المعنى ذاته. ويلاحظ،ان النص ثابت اما المتغير اوالمتجدد فهو فعل القراءة،وما تعددية التأويلات،الا تعبير عن عدد من القراءات التي تنظر للنص من زوايا مختلفة ومتعددة،وبذلك يتم زج النص ليستقطب حركية الحياة وبهذا الصدد يقول(تودوروف):(فكل عمل تعاد كتابته من طرف قارئ،يفرض عليه منظورا تأويليا،لا يكون في الغالب هو المسؤول عنه،لكنه يأتيه من ثقافته وعصره،أي من خطاب اخر).

إن فاعلية النص تكمن بالدرجة الأساس،من خلال فعل القراءة ونفاذها في النص وايجاد مسوغات منطقية يرجحها العقل او يقبلها،تتفق وسياق النظم الحياتية.

وإن كان النص غنيا،فان تعددية القراءة أمر مفروغ منه،واختلاف فعل القراءة جزء من حيوية النص،وبذلك يبقى النص،نبعا ثراً لقراءات متعددة،مختلفة،ومتضار، وليس في ذلك عيب او تجن على النص،بقدر ما هو تسليط الضوء على المناطق المعتمة او المضببة او غير الواضحة او تلك التي فهمت ضمن اطر وسياقات تقليدية.ولهذا،فأن التأويل قراءة جديدة بنص المؤلف لا الى المؤلف ذاته،واكتشاف معنى جديد لا الانحسار داخل قصدية المؤلف بوصف القارئ يعيد أنتاج النص في ضوء تشربه وفهمه،وبهذا الصدد يقول(جون ديوي)(وكل من يقرأ القصيدة بطريقة شعرية،فانه انما يبدع قصيدة جديدة).

فيكون القارئ مركز النص،والقادر على خرقه واعادة تركيبه وخلق بنيته من جديد. وقد يكون التأويل ضروريا، ذلك ان حركية الحياة وغورها المضطرد اكبر من النص أحيانا،لهذا فان القارئ معبأ بالمغاير او المخالف للنص،ومن هنا يكون القادر على إعادة خلق نظام النص وصيرورته واكتشاف مراكز جديدة،تقوي من فاعلية القارئ وتجذره،واذا كان النص،غير قابل للتأويل او اعادة الاكتشاف،فانه لن يشكل شيئا من صيرورة الحياة،وذلك لأنه يعد متوقفاً وغير قابل لاستقطاب المتغيرات التي تحف بها الحياة.

وبذلك يتحول الى نص ميت،غير قابل للحياة او ليست لديه أمكانية التواصل خارج أطر لحظته الزمنية التي ولد فيها. ان موت النص،تحنيط للابداع.أسوة بالمؤلف وقصديته.

فقد تكون تلك القصدية قد عفا عليها الزمن او انتهت ضمن الحقبة التأريخية،الا ان تنشيط فاعلية القراءة وتجددها،يضفي صيغا لتقبل نصوص،وان كانت عبر مئات او آلاف من السنين.واذا كان التفسير ضروريا في كثير من الأحيان،باعتباره يكشف حقائق او مسلمات ضمن أطر او محطات يلجأ اليها المفسر،وقد تكون:نفسية،إجتماعية،بيولوجية،تاريخية….الخ.

إلا أن للعقل البشري التواق للانعتاق والمتواصل التفكير،والباحث عن مركز اعلى وقوة اكبر في الحياة،لن يكتفي بالتفسير على أهميته وانما يلجأ للمعالجة التأويلية للنفاذ لا في النص وحسب،وانما لخلق جسور أكثر متانة،واشد ترسانية بين النص والحياة من جانب،والقارئ والحياة من جانب آخر.

ان القراءات الغنية للنصوص،او للنص الواحد،تخلق اصواتا مختلفة في مركز التأويل النص وبذلك تنبعث الحياة وتتجدد بقوة،لأن الفعل البشري يجد نفسه،وبهذا الصدد يقول(هردر)واصفا الشاعر بانه(لا يقلد الطبيعة،لأنه هو نفسه خالق اخر،يعتمد في خلقه على الصور)وبالدرجة ذاتها،فان القارئ انما يكشف عن ألمعية العقل النقدي في كيفية القراءة للنص،بحيث يستطيع استنطاق المعنى وان تخفى واكتشافه ان تعذر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق