الفكر

الفراغ في الميزان

أجل فكم من سليم الجسم ممدود الوقت يضطرب في هذه الحياة بلا أمل يحدوه، ولا عمل يشغله، ولا رسالة يخلص لها ويصرف عمره لإنجاحها.
ألهذا خلق الناس؟ كلا، فالله -عز وجل- يقول: (أفحسبتم أنا خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق) (الآيتان: 115-116 من سورة المؤمنون). 
إن الحياة خلقت بالحق، الأرض والسماء وما بينهما. 
والإنسان في هذا العالم يجب أن يتعرف هذا الحق وأن يعيش به. 
أما أن يدخل في قوقعة من شهواته الضيقة، ويحتجب في حدودها مذهولاً عن كل شيء فبئس المهاد ما اختاره لحاضره ومستقبله!
وما أصدق ما رواه الشافعي في أسس التربية هذه الكلمة الرائعة: “وإذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل”.
وهذا صحيح؛ فإن النفس لا تهدأ، إذا لم تَدُرْ في حركة سريعة من مشروعات الخير والجهاد والإنتاج المنظم لم تلبث أن تنهبها الأفكار الطائشة، وأن تلفها في دوامة من الترهات والمهازل.
وأفضل ما تصون به حياة إنسان أن ترسم له منهاجاً يستغرق أوقاته، ولا تترك فرصة للشيطان أن يتطرق إليه بوسوسة أو إضلال. 
وتوزيع التكاليف الشرعية في الإسلام منظور فيه إلى هذه الحقيقة، ألا يُترك للنفس فراغ يمتلئ بالباطل، لأنه لم يمتلئ من قبل بالحق. 
ويشرح “ديل كارنيجي” هذا فيقول: (إننا لا نحس أثراً للقلق عندما نعكف على أعمالنا، ولكن ساعات الفراغ، التي تلي العمل هي أخطر الساعات طراً). 
فعندما يتاح لنا وقت فراغ لا تلبث شياطين القلق أن تهاجمنا، وهنا نتساءل: أترانا نَحْصُل من الحياة على ما نشتهي؟ أترى كان الرئيس يعني شيئاً بملاحظته التي أبداها اليوم؟ أترانا مرضى؟
ذلك أن أذهاننا تشبه أن تكون خاوية عندما تفرغ من العمل، والطلاب في دروس الطبيعة يعلمون أن الطبيعة تمقت الفراغ، تريد تجربة على ذلك؟
أحدث ثقباً في مصباح كهربائي مفرغ من الهواء، وسترى أن الطبيعة تدفع بالهواء إلى داخل المصباح ليملأ ما فيه من خلاء، كذلك تسرع الطبيعة إلى ملء النفس الفارغة، بماذا؟ بالعواطف والإحساسات غالباً؛ لماذا؟ 
لأن مشاعر القلق والخوف والحقد والغيرة والحسد تندفع بقوة بدائية عنيفة متوارثة من عهد الغابة، وتلك المشاعر من القوة بحيث يمكنها أن تبدد السلام من نفوسنا والاستقرار من عقولنا). 
من حق المربين إذن أن يحذروا آفات الفراغ، وأن يحصنوا النفوس من شرورها. 
وأمثل الوسائل في هذه الحالات وضع سياسات محكمة للإنشاء الدائم، والبناء المستمر. 
فإن شحن الأوقات بالواجبات، والانتقال من عمل إلى عمل آخر -ولو من عمل مرهق إلى عمل مرفه- هو وحده الذي يحمينا من علل التبطل ولوثات الفراغ. 
وأحسب أن المجتمع يستطيع الخلاص من مفاسد كثيرة لو أنه تحكم في أوقات الفراغ، لا بالإفادة منها بعد أن توجد، بل بخلق الجهد الذي يستنفذ كل طاقة، ويوجه هذا وذاك إلى ما ينفعه في معاشه ومعاده.
فلا يبقى مجال يشعر امرؤ بعده أنه لا عمل له، من قديم عرف المصلحون أن بطالة الغني ذريعة إلى الفسوق.
إن بطالة الفقراء تضييع لقدرة بشرية هائلة، وبعثرة مخزية لما أودعه الله في العضلات والأعصاب والأفئدة من طاقات لو فُجرت لغيرت وجه العالم. 
وأحق الأنظمة بالقبول والتشجيع ما رعى هذه الحقيقة ورتب عليها تعاليمه. 
والإسلام يملك على الإنسان أقطار نفسه من هذه الناحية، فإن أغلب شرائعه يدور على جهاد النفس وجهاد الناس.
وجهاد النفس فطامها عما تشتهي من آثام، أو تجنح إليه من ماكر. 
وجهاد الناس منع مظالمهم من إفساد الحياة وخلخلة الإيمان، والإصلاح في جنباتها. 
وكلا الجهادين يستغرق العمر كله لحظة لحظة، ولا يستبقي فرصاً للعبث والذهول والغفلات. 
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل الله الاستمساك بدينه مع نبض قلبه بالحياة، فيدعو: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) [أخرجه أبو داود]. 
وكان يقول: ((اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)) [الترمذي]. 
وهذا الاستمداد اليقظ الدائب هو أساس الاكتمال النفسي. 
أما شغل الوقت كله بالجهاد العام بعد ذلك فأمر معروف في سيرته، فما استراح من مناهضة الكفر في فج من فجاج الجزيرة إلا ليتحول إلى فج آخر يعمره بالإيمان والتقوى. 
وقد جاء صاحباه من بعده أبو بكر وعمر فلم يدعا للمسلمين مجالاً لقعود، فرموا بجيوشهم على معاقل الطغيان في الأرض، فما هي إلا سنوات معدودات حتى امتلأت بقاع العالم بأضواء الإيمان. 
فماذا حدث بعد أن ترك المسلمون هذه الواجبات المهيمنة على أوقاتهم كلها؟ فرغ بعضهم لبعض، وعاثت بينهم الفتن! 
ثم خلفت خلوف جعلت من تفسير المتشابه في كتاب الله مضيعة للوقت الواسع الرخيص!
فأساءت بذلك إلى آيات الكتاب كلها محكمها ومتشابهها.
إن الحق إذا استنفد ما لدى الإنسان من طاقة مختزنة لم يجد الباطل بقية يستمد منها. 
وإذا استولى على قلبه ولبه فلا مجال لوساوس اللهو وهواجس الريبة. 
ويتساءل “ديل كارنيجي: “ما السبب في أن أمراً هيناً كالاستغراق في العمل يطرد القلق؟. السبب في ذلك هو أحد القوانين الأساسية التي اكتشفها علم النفس وهو: من المحال لأي ذهن بشري مهما كان خارقاً أن ينشغل بأكثر من أمر واحد في وقت واحد”. 
وهذا صحيح، وهو قريب من قول الله -عز وجل-: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (الآية 4 من سورة الأحزاب)
إنك كما تعجز عن تخيل شيئين في وقت واحد، فكذلك تعجز عن الجمع بين إحساسين متناقضين.
ليس في استطاعتنا أن نتحمس لعمل مثير ونحس القلق في الوقت نفسه، فإن واحداً من هذين الإحساسين يطرد الآخر. 
وهذا القانون البسيط هو الذي مكن الأطباء النفسيين الملحقين بالجيش أن يأتوا بالعجائب في خلال الحرب، عندما كان يأتي الجنود الذين ضعضعت الحرب أعصابهم، كانوا يقولون: أشغلوهم بعمل ما. 
إن الفراغ في الشرق يدمر ألوف الكفايات والمواهب، ويخفيها وراء ركام هائل من الاستهانة والاستكانة، كما تختفي معادن الذهب والحديد في المناجم المجهولة!
ويستتبع هذا الإهدار الشنيع لقيمة العمل والوقت مصائب لا حصر لها في الأحوال النفسية والاجتماعية والسياسية.
يُروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: “إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا سألت عنه فقيل: لا حرفة له، سقط من عيني.
وفي الحديث: (إن الله يحب المؤمن المحترف)
فلا جرم أن شعوباً بأسرها تسقط من عين الله، وتسقط من أعين أهل الجد والإنتاج لأنها لا عمل لها، استهلكها الفراغ وأسلمها للفناء.
وعندي أن العلة الأولى لتخلف الأمة العربية والشعوب الإسلامية ما غلب على أحوالها النفسية والاجتماعية من قعود واستكانة وتقاعس. 
ويستحيل أن تحرز هذه الأجيال الغفيرة من البشر سهماً من نجاح في الدنيا أو فلاح في الأخرى إلا إذا تغير أسلوبها في الحياة، وأمحت من ربوعها آثام البطالة والفراغ.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق