الفكر

الدراما.. القانون الوضعي والإلهي

  لابد لهأن يرجح أحدهما على الآخر، وفي نفسه ان كلاهما وان أختار أحدهما، فأحلاهما أمر من الآخر.

ففي مسرحية (اوديب ملكا) يصمم الآلهة مسارا للطفل الذي لم ير النور بعد، والنبوءة تقول: إن الطفل ما أن يكبر ويشتد ساعده حتى يقتل ابيه ويتزوج من امه.

 لكن البطل أوديب ما ان علم بالأمر حتى وضع القانون الوضعي منهجا، فترك مدينته كورنثه واتجه الى طيبة، متجنبا تلك النبوءة التي يقشعر لها البدن.

ويلاحظ، ان أوديب تحدى الارادة الإلهية، باختياره عصيان تنفيذ النبوءة، وهو بذلك انما يفرض الإرادة البشرية وجعلها شريعة له، لكن الآلهة من الدهاء إذ جعلته منفذا لأرادتها على الرغم منه.

 وبالتالي فانه يقتل أباه ويتزوج من أمه وينجب منها أطفالا وبذلك فان أصراع القانونين كان حتميا.

من هنا نتفهم طبيعة الصدام العنيف بين القانونين، وتجلى ذلك بقوة اكبر في مسرحية (انتجونا) للمؤلف نفسه، اذ يقف كريون في مواجهة البطلة (انتجونا) نازلا فيها اشد انواع العقاب، إلا وهو الموت لأنها تحدت ارادة القانون الوضعي المتعلق بمنعه دفن جثة اخيها، الذي مهد للأنقضاض على المدينة، لكن كريون يُقرع ويلام لأنه نقض قانون ألهي، والجوقة/الشعب، تقف مع البطلة ضد كريون، بالتالي ازدادت خسائر كريون بفقدانه ابنه هيمون الذي كان يعشق انتجونا فيقتل نفسه حزنا على موت حبيبته، وزوجة كريون تموت حزنا على موت ابنها هيمون، فيحس كريون بالهوان ويقرع نفسه لأنه اتخذ من القانون الوضعي منطلقا لحكمه. غافلا القانون الالهي، بل ومتحديا له، فانهالت عليه الخسائر تترى تباعا.

وفي مسرحية (هاملت) التي كتبها شكسبير، تأتي الفرصة لهاملت في أن ينقض على قاتل ابيه الملك كلوديوس، لكنه يُرجيء تنفيذ الأمر لان القاتل كان يصلي في تلك اللحظة، وخشى هاملت ان قتله سيدخله الجنة بدلا من النار، وبذلك تألق الصراع بين القانونين. وفي مشهد آخر كان هاملت يواجه به حبيبته اوفيليا، التي صارت تتسقط اخباره وتشي به الى ابيها بولونيوس وبدوره ينقلها الى الملك كلوديوس غريم هاملت الذي يحزن ايما حزن لما وصلت اليه اوفيليا، فيصرخ غاضبا منها اذ يقول: اذهبي الى الدير وترهبي.

هنا مكمن الصراع بين قانونين: الوضعي والإلهي , فهاملت يتبع اللحظة هذه قانون إلهي بوصفه يبحث عن الحقيقة وسط طلاسم الظلام، انه يؤكد قانونه وأحقيته، بإعتبار القاتل كلوديوس نفذ قانونا وضعيا، ولابد من عقابه بينما أوفيليا العاشقة لهاملت حد الجنون، عاشت لحظات درامية عاصفة، اذ وقعت فريسة بين قطبين يشكلان قانونين هما: الاب والحبيب. فان امتثلت لأبيها نفذت قانون الهي الذي يقضي بوجوب طاعة الابناء للآباء ويجنبها العصيان، وان امتثلت لحبيبها تكون عاصية من وجة نظر ابيها، وبذلك تكون عاصية للقانون.

إن الرغبة الجامحة تقف امام الواجب فتتكسر، وبذلك صار الصراع بين الوضعي والسماوي في ذات البطلة يشكل ميسما متعرجا، وباختيارها الواجب على حساب الرغبة، افقدها حبيبها هاملت، الذي صار ينفر منها، فيوصلها الاشتباك بين القانونين الى الجنون دون وعي م وفي مسرحية (الأب) لمؤلفها سترندبريج، يتالق الصراع بين الزوجين عندما تفجر الزوجة فكرة، ان المرأة لوحدها تعرف من يكون أ بُ ابنها.

وهنا ايضا صراع بين القانونين، وان تلبسه الغموض بعض الشيء، غموض التشكك بما هو شرعي يخضع للمنطق السماوي، إلا أن إرادة البشر تشكك به، فيتحول السماوي الى قانون وضعي مليء بالغموض والسرية. ويتخذ برتولد برشت في مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) صراع القانونين، بتجلي كبير، فالخادمة تقف امام السيدة التي ولدت الطفل لكنها تركته ونسته عندما دُوهم القصر فاخذت ملابسها ومجوهراتها وهربت من القصر مسرعة مع رهط من خدمها وحراسها.

 لكنها نست طفلها أو تناسته.

 أما الخادمة فقد رفعت الطفل وهربت به وأنقذته من موت محقق لأن من إستباح القصر كان يبحث عن وريث العرش ليزهق روحه وان كان طفلا.

 وعاش الطفل بكنف الخادمة التي كانت ترعاه بوصفها امه وليست الخادمة، ولكن ما ان عادت الامور الى نصابها، وعادت سيدة القصر الى قصرها، وشعرت بحاجاتها لطفلها الذي أفتقدته الآن، وما ان علمت انه بكنف الخادمة، واذا بها تطالب بالطفل ان يعود لأحضانها.

إن القانون الإلهي يفرض ان يكون الطفل للأم الذي ولدته، لكن (برشت) يعيد تقيم القضية من زاوية جديدة، إذ يأمر القاضي ان ترسم دائرة حول الطفل، وتقف المرأتين المتنازعتين خارج الدائرة متقابلتين، والطفل يقف في مركز الدائرة، وبإشارة من القاضي عليهما سحب الطفل والتي تشد وتسحب بقوة يكون الطفل من نصيبها، الملكة لم تتورع من سحب الطفل بشدة وعنف وان كلف ذلك أذيتة، غير مبالية بما يحس به الطفل المهم سحبه والفوز به وتنتصر، هنا يقف القاضي امام القانونين، فيرجح القانون الوضعي وينتصر للخادمة لا لأنها انقذته من الموت يوم كان البحث عن الوريث هدفا لمن استباح القصر حسب.

 بل لأنها خافت على الطفل من شد سحب الطفل من الدائرة، فحبها للطفل دفعها لأن تفلت يده خوفا وحرصا عليه. انتصر القاضي للخادمه، انتصر القانون الوضعي على القوانين التي تعتمد السنن الشرعية، وبذلك انتصار لقوانين البشر في كيف يعالجون مشكلاتهم دون خوف أو تردد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق