تحقيقات

مفاوضات الزيادة في أجور القطاع الخاص

 

في صورة عدم تسوية الأمور في وقتها فإنّ “صابة” من الإضرابات الشغليّة المنظّمة والعشوائيّة سنعيش على وقعها في جميع أنحاء البلاد تشمل مجالات حيويّة وقطاعات حسّاسة، موجة جديدة منتظرة من التوقّف عن العمل من شأنها أن تؤدّي بالمنطق إلى تعطيل حاجات المواطنين وإصابة الحراك العامّ بشلل عامّ البلاد خاصّة إذا وضعنا في الإعتبار قطاعات النقل والصّحة والتعليم وخدمات المرفق العامّ بما يضع تونس على سكّة العودة إلى المؤشرات السلبيّة، على اعتبار أنّ الإضرابات ستضعنا، مرّة أخرى، في ثلاّجة الموت الإقتصادي والتّجاذب السياسي وستزجّ بنا، مجدّدا، في حلبة الإحتقان المجتمعي بالنظر إلى الخسائر المنجرّة عن إهدار مليارات من ساعات العمل على ماكينة الإقتصاد الوطني وعلى صورة بلادنا في الخارج وتأثير تذبذب المشهد العام على جلب المستثمرين وعلى نوايا الإستثمار الأجنبي وخاصّة على القطاع السّياحي المختنق أصلا جرّاء اهتزاز الوضع الأمني من وقت لآخر بسبب الإرهاب.

الإضراب دستوري وممارسته قانونيّة حسب الضوابط التي تحدّدها مجلّة الشغل وهي وسيلة مشروعة للضّغط على المؤجّر دولة كانت أو خوّاص لحفظ حقوق الشّغالين وصون كرامتهم وردّ حقوقهم المهضومة لكنّه يجب أن لا يتحوّل أيضا إلى أداة للإضرار بالصّالح العامّ إذا استخدم في الإتجاه الخطأ الذي لا يقدّر العمل كقيمة أو الذي يتغافل عن الظرفيّة الصعبة التي تمرّ بها الدولة ونحن قاب قوسين أو أدنى من استكمال آخر مراحل المسار الإنتقالي انتهاء بإنجاز الإستحقاق الرئاسي المزمع إجراؤه في 23 نوفمبر 2014، كما أنّ الإضراب في غير وقته ودون مراعاة وضعيّة المؤسّسة أو المؤجّر في مرحلة مضبوطة يؤدّي حتما إلى الإضرار بالجميع على حدّ السّواء وفي طليعتهم الأجراء الذين ستزداد وضعيّاتهم سوءا باعتبار تعذّر الإستجابة لمطالبهم لصعوبات ماليّة واقتصاديّة قاهرة.

ونحن في تونس نفتخر بدسترة الحقّ في الإضراب في دستورنا الجديد وتفسير ذلك بوضوح خاصّة في الفصلين 35 و36، ولكنّنا قبل كلّ ذلك نفتخر بتاريخنا النقابي الذي نحته نقابيّون من طينة الكبار والعظماء ويكفينا استحضار مآثر و الزّعيمين النّقابيين محمّد علي الحامّي وفرحات حشّاد، ويكفينا استذكار نضالاتهما من أجل تحقيق الكرامة الإجتماعيّة والمهنيّة بصدق ووطنيّة صرفة، ولا شكّ أنّ “الإتّحاد العامّ التّونسي للشّغل” سيظلّ صرحا وطنيّا رائدا في الدفاع عن الشغالين وسيبقى المنظّمة الأمّ، رائدة العمل الوطني والنّقابي، وهو ما يجعل من المستحيل المزايدة على الحراك النقابي كحقّ وواجب أيضا من النّاحية الأخلاقيّة والأدبيّة للشغّالين والنقابيين.

هل تضعنا “صابة الإضرابات” المعلنة في ثلاّجة “الموت الإقتصادي”؟؟؟

 الإضراب مشروع لكي لا تتغوّل الإدارة أو المؤجّر عموما وحتّى لا تستباح حقوق الأجراء في الحياة الكريمة، ولكن وضعنا في تونس اليوم يستوجب النظر بأكثر من عينين سيما والهشاشة تضرب أغلب القطاعات وخاصّة وأنّ التّونسي “الزّوّالي” ومتوسّط الدخل كلاهما ليس في حاجة إلى مزيد من تدهور قدرته الشرائيّة جرّاء الغلاء الفاحش وتنامي ظواهر الإحتكار والتجارة الموازية في ظلّ الإنتشار “السّرطاني”، عافانا وعافاكم اللّه، للأسواق السوداء التي يقتات “مديروها” من التهريب والتي تفتح على المجهول ومآس حجمها أكبر بكثير ممّا يتخيله التّونسي والتي تبلغ حدّ تجارة الأسلحة وما يجلب ذلك علينا من وبال الإرهاب.

 لذلك علينا اليوم جميعا التّشمير عن السّواعد ونكران الذات وحمل معاول البناء والذهاب للعمل بعقليّة الإضافة والإبداع ونفض الخمول وترك عقليّة “رزق البيليك” لكن الأساس أن تراجع الدولة برامجها واستراتيجيّاتها ومخطّطاتها المتعلّقة بالمسألة الإجتماعيّة للشّغالين باعتبارها الهامّ والمهمّ في هذه الظرفيّة التي يعيش فيها العامل انهيارا كاملا في قدرته الماديّة، الأمر الذي دفع بخبراء في الشّأن الإقتصادي ومختصين في الماليّة وعلماء اجتماع إلى التوافق على الحاجة الملحة إلى مراجعة فصول الميزانيّة العامّة للدولة مراجعة شاملة وإضفاء تغييرات جذريّة في التوجّهات المعتمدة بما يمكّن من إعداد قانون للماليّة يستجيب لمقتضيات المرحلة وتطلّعات المواطن الذي يرزح تحت قهر “الدّيون” و غلبة “الكمبيالات” وضغط “السّلفات”، فلم يجد بدّا من أن يعيش وهو يصعّر وجهه لدائنيه في انتظار الفرج.

ويؤكّد أهل العرفان والدراية أنّنا اليوم بحاجة إلى “قانون ماليّة” يترفّع عن بعض المقترحات والتوجّهات الفضفاضة وغير المجدية على غرار مقرتحات سابقة من قبيل  “طابع الزواج” وإحداث تعريفة جبائيّة تخصّ صنفا أو جنسيّة دون أخرى للوافدين على بلادنا والمغادرين لأراضيها لأنّنا قد نجابه بذات الإجراءات نفسها، ويجمع العارفون على أنّنا في أمسّ الحاجة إلى قانون ماليّة ناجع ينجز برويّة ويصاغ بهدوء ويضع كلّ الإعتبارات ويأخذ في الحسبان معطيات الواقع وتوقّعات المستقبل، قانون للماليّة يوظّف الضّرائب أساسا وبالخصوص على كلّ من يحقّق الأرباح الملموسة والمحسوسة والتي يمكن رصدها بسهولة ووضوح وعبر متابعة بسيطة من لجان المراقبة الإقتصاديّة المختصّة التابعة لهياكل الدولة المعنيّة، توظيف حقيقيّ للضّرائب يمكن أن يدرّ أموالا طائلة تمتلئ منها خزينة الدولة فيتحقّق ازدهار الإقتصاد وتدور عجلته وتتهيّأ بيئة خصبة للإستثمار ويتحقّق الرّفاه المنشود للمواطن.

 كافة العقلاء مجمعون على أنّ التّوظيف الجبائي يجب أن يوجّه أساسا وبالضرورة إلى الأطراف الناشطة بقوّة من ذلك الشّركات الخاصّة للإتصالات والخدمات التجاريّة والتسويقيّة والإشهاريّة والعقاريّة التي تبيع منتوجاتها بالمليارات، التوظيف الجبائي يجب أن يوظّف بالشكل المطلوب على مردوديّة الشركات الكبرى الخاصّة ذات المنشأ المحلّي أو الأجنبي الناشطة في مجال نقل الأشخاص والمواد الغذائيّة والبتروليّة والمنجميّة والمواد الإستهلاكيّة والحياتيّة ثقيلة كانت أم خفيفة، وأيضا من التوظيف الإيجابي النّاجع استخلاص الحقّ الجبائي من المرابيح الهامّة للمصحّات الخاصّة والمقاهي والمطاعم الفاخرة والمنتزهات العائليّة والفضاءات التجاريّة الكبرى ونقاط البيع والتمثيليّات التجاريّة ومراكز النّداء والصيدليّات وقاعات الترفيه والألعاب والشركات الشاغلة للطريق العام والمتصرّفة في الملك العمومي لا سيما التي تعمل بأساليب عشوائيّة في ظلّ “استقالة” النّيابات الخصوصيّة والفراغ المسجّل في نيابات أخرى كثيرة، التوظيف الجبائيّ بالصّيغ القانونيّة يجب أن ينسحب على جميع المعنيين به دون استثناءات لأنّ الإستثناءات والمحاباة وكلّ المراوغات ستؤدّي بنا إلى ما لا يحمد عقباه عبر تكريس نفس المنوال القديم الفاشل.

 والمسؤولون المعنيّون بإدارة هذا الملفّ الشّائك في الدّولة ليس أمامهم أيضا من خيار سوى الإجتهاد والخروج بالحلول الكفيلة التي تمكّن من الحدّ من نزيف مديونيّة بلادنا للخارج والتقليص من عجز ميزانيّة الدّولة المتفاقم ومن العجز المستشري في الميزان العامّ والميزان التّجاري، فالقائمون على المال العامّ هم مطالبون أكثر من أيّ وقت فات على صيانة مال المجموعة الوطنيّة والتصرّف فيه بحكمة وترشيد الإنفاق في كلّ وجوهه، والمؤتمنون على المال العام مدعوون إلى توخّي سياسة “التقشّف الإيجابي” التي تراعي أوضاع الفئات الهشّة باعتبارها “محلّك سرّ” كما يقال بل يجب تطال أصحاب الرواتب المنتفخة والمنتفعين بالإمتيازات والمنافع وأصحاب المشاريع والمداخيل الكبرى.

هذا”التقشّف الإيجابي” يجب أن يشمل لا محالة النّفقات المخصّصة للمساكن المهنيّة للمسؤولين على الصعيد الوطني أو الجهوي أو المحلّي والميزانيّة المفردة لتنقلاتهم وتأمين حمايتهم وسفراتهم “الذهائيابيّة” إلى الخارج إلى جانب المصاريف المتعلّقة بخلاصات استهلاك الطاقة الكهربائيّة والغاز والماء الصالح للشرب بالنسبة لإدارات الدولة، وحريّ بـ”التقشّف الإيجابي” أن يشمل السيّارات الإداريّة ووصولات البنزين المسندة في غير محلّها أو دون ضرورة توجبها وخاصّة التي تفتقد إلى سند قانوني يوجزها، وهامّ مثلما تقدّم ذكره عقلنة النفقات الجنونيّة التي تسند أحيانا دون وعي أو تقدير للأمور لكبار الموظفين لممارسة نوع من “السّياحات الفارغة” و”شوبينغ” قتل الوقت إلى مختلف بلدان العالم لا يهمّ في ذلك إن كانت الوجهة أدنى الأرض أو أقصاها و”قيّد” على الحضور في ندوة أو مؤتمر أو إجراء دورة تكوينيّة والتي في نهاية المطاف لا تبلّ ولا تعلّ ولا تزيد هذا “السائح بفلوس الشعب” إلاّ طمعا في الفوز برحلة أخرى مجّانيّة، وبالطّبع هذا الأمر لا ينسحب على قلّة قليلة من الكفاءات التي تعمل وتبذل من أجل تونس متطوّرة حديثة وشعبها أكثر رفاها.

سوء التقدير والتصرّف الفوضوي في موارد الدولة ومدخراتها سيجلب إلينا لا محالة موجة جديدة بل طوفانا من الإضرابات نحن اليوم في غنى عنها باعتبار عوزنا الشديد إلى كلّ ساعة عمل ترفع مؤشرات الجهاز التنفسي العامّ للتونسيين.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق