جمال جتالا
في كتاب “باريس بحروف عربية”، تستكشف كولين هوسيه العلاقة المعقدة والمزدوجة بين الكُتّاب العرب ومدينة باريس، تلك المدينة التي تجمع بين الإلهام والإحباط. من خلال قصص المنفى، اللقاء، والابتعاد، تكشف هوسيه عن باريس كملاذ ومِرآة لنضالات الكُتّاب العرب، الممزقين بين الإعجاب والرفض.
تصبح باريس مختبرا إبداعيًا حيث تتشابك التأثيرات التي تشكّل الأدب العربي المعاصر. اليوم، لدينا فرصة للتحدث مع كولين هوسيه لفهم هذه الديناميكية الأدبية الفريدة.
ما الذي دفعك لاستكشاف العلاقة بين الكُتّاب العرب وباريس في هذا العمل؟
يتجاوز الأمر مجرد العلاقة بين باريس والعالم العربي، فقد كان اهتمامي الأول بدور باريس كعاصمة اقتصادية، ثقافية، وسياسية، وكذلك كرمز.
العلاقة هنا مليئة بالتناقضات، والكُتّاب يقدمون منظورًا مميزًا حولها. فمنذ قرون، كان هؤلاء الكُتّاب زائرين لباريس لفترات متفاوتة، وأنتجوا نصوصًا أثرت على مجتمعاتهم، أحيانًا لعدة عقود.
تحدثتِ عن علاقة مزدوجة. كيف تظهر هذه الازدواجية في أعمال الكُتّاب العرب؟
هناك افتتان بالثقافة الفرنسية يظهر حتى قبل أن يصل الكُتّاب إلى باريس، لكنه يمتزج أحيانًا بشعور بالرفض تجاه فرنسا، التي يُنظر إليها أحيانًا كقوة تسعى للهيمنة على العالم العربي. غالبًا ما يصاحب هذا الافتتان شعور بعدم الراحة، ناتج عن الإحساس بعدم المساواة في التعامل مع المحاورين الفرنسيين.
كيف يصف الكُتّاب العرب باريس في كتاباتهم؟ وما هي أبرز الموضوعات التي تتكرر؟
باريس وسكانها غالبًا ما تُوصَف كموضوع للدهشة، خاصة في كتابات الرحلات الأولى، التي تزخر بالمقارنات مع البلدان الأصلية. حتى فترة ما بعد الحرب، كان الوصول إلى باريس يتم غالبًا عبر أحد الموانئ الفرنسية، مثل مرسيليا أو الساحل الأطلسي، لكن باريس ظلت الوجهة النهائية. عند الوصول، ينشأ شعور بالغربة، يتفاقم بسبب بقاء الكُتّاب على هامش الأوساط الفكرية والفنية الباريسية. وغالبًا ما يكون الفرق بين باريس المثالية والواقع مصدرًا للإحباط.
ما هو دور باريس كملاذ للكُتّاب العرب؟ وكيف يؤثر ذلك على إبداعهم؟
تقدم باريس استقرارًا سياسيًا نسبيًا للكُتّاب العرب، حتى خلال القرن التاسع عشر بفترات تغير أنظمتها. توفر المدينة أيضًا أماكن وفرصًا للتعلم والتفاعل، مثل المكتبات، الجامعات، والمقاهي. علاوة على ذلك، تتيح باريس مساحة من الخصوصية والابتعاد عن الوسط الأصلي للكُتّاب، مما يساعدهم على الإبداع. زيارة باريس هي بمثابة إعلان ذاتي للهوية الأدبية.
كيف أثرت التفاعلات بين الثقافتين العربية والفرنسية على الأدب المعاصر؟
لقد تأثر العديد من الكُتّاب العرب بالأدب الفرنسي، سواء خلال دراستهم في باريس أو في بلدانهم الأصلية. ظهر هذا التأثير بوضوح منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع شخصيات مثل محمد حسين هيكل (زينب) ومحمد تيمور، رواد الأدب الحديث.
ما هو تأثير المترجمين الشرقيين الأوائل على صورة باريس في الأدب العربي؟
المترجمون، الذين عملوا لصالح الملك الفرنسي في مؤسسات مثل المكتبة الملكية وكلية المترجمين، قاموا بترجمة نصوص من العربية والسريانية إلى الفرنسية. شملت أعمالهم تعليقات على نصوص أو إعادة إحياء مؤلفات قديمة، مثل الأطالس الجغرافية للإدريسي، بالإضافة إلى دراسات لغوية.
من هم أبرز الكُتّاب العرب الذين تعتبرينهم شخصيات رئيسية في هذه العلاقة الأدبية مع باريس؟ ولماذا؟
جبرائيل الصهيوني، الذي عانى من تهميش خلال إقامته الباريسية في أوائل القرن العشرين. يوسف-إيلي أيوب، الذي تناول الهوية المزدوجة منذ القرن التاسع عشر. رفاعة الطهطاوي، رائد ترجمة أدب الرحلات إلى باريس. يعقوب صنوع، الذي جسّد تطور الصحافة العربية في باريس. طه حسين، لما قدمه من تعاونات مثمرة مع أدباء فرنسيين. وكاتب ياسين، لعلاقته الفريدة باللغة الفرنسية. بالإضافة إلى العديد من الكُتّاب المعاصرين.
كيف يؤثر المنفى على كتاباتهم عن باريس؟
باريس تمثل مثلاً أعلى للكُتّاب، غالبًا قبل وصولهم إليها. وعندما يصبح الرجوع للوطن مستحيلًا، تتحول باريس إلى مكان للعيش مع المنفى. كما أن انتشار الثقافة الفرنسية بين الشرائح الاجتماعية التي ينتمي إليها الكثير من الكُتّاب، وكذلك وجود الجاليات العربية، يمنح باريس طابعًا مألوفًا.
كيف تُعد باريس مختبرًا للتجارب الأدبية للكُتّاب العرب المعاصرين؟
باريس مختبر تلتقي فيه مجموعة من الكُتّاب العرب الذين يسعون إلى تجديد الأدب العربي وإثرائه بتأثيرات جديدة. ظهر هذا بشكل خاص مع جيل الاستقلالات الذي كان يهدف إلى بناء هويات أدبية وطنية. في السبعينيات، ظهر تيار أدبي يساري في باريس نتيجة لقاءات غير رسمية بين الكُتّاب العرب من معظم الدول العربية.
كيف تطورت هذه العلاقة الأدبية على مر العقود؟
منذ ما قبل الاستعمار، كان النظر الفرنسي للكُتّاب العرب متسمًا بالشعور بالتفوق، واستمر هذا حتى بعد الاستقلال. هذا الموقف دفع بالكُتّاب إلى الشعور بالتناقض بين الجذب والرفض. اليوم، بفضل الإنترنت وتعدد المراكز الثقافية، لم يعد المرور عبر باريس ضروريًا، على الرغم من أن البعض ما زال ينظر إليها كضامن للاعتراف الأدبي.
كيف ترين مستقبل هذه الديناميكية الأدبية؟ وهل ستظل باريس تلعب هذا الدور المركزي؟
عوامل مادية، كصعوبة الحصول على التأشيرات أو تصاريح الإقامة، وضعف الاستثمار في التعليم والثقافة، وتراجع النفوذ الفرنسي في العالم العربي، تساهم في تقليل جاذبية باريس. لكن لا تزال باريس تحافظ على مكانتها في غياب مدن أخرى تستطيع أن تحل محلها كمصدر إلهام. بالإضافة إلى ذلك، يوفر الإنترنت مساحة جديدة للتواصل بين الكُتّاب وجمهورهم.